×

الأديب البحريني أمين صالح: أشبه نفسي بالممثل الذي يؤدي شتى الأدوار من فيلم إلى آخر.

يجمع البحريني أمين صالح بين أجناس كثيرة من الكتابة، وهو لا يرى في ذلك أي غرابة بل يؤكد أن الموهبة في الكتابة إن وجدت تمنح صاحبها تأشيرة للخوض في كل مجالات التأليف، وفي حواره مع صحيفة “العرب” يعيدنا هذا المفكر إلى خصوصية تجربته، نشأتها ونضوجها، ويقف معنا على واقع الحراك الأدبي في البحرين.

تنفتح تجربة الأديب البحريني أمين صالح على مختلف الأجناس الإبداعية، حيث تجمع بين كتابة القصة القصيرة، والرواية، والشعر، والسيناريو السينمائي والتلفزيوني، والترجمة، والمسرحية والمقال الصحفي، وذلك انطلاقا من مرتكزات معرفية وثقافية وإبداعية شكلت تكوينه وأصلت وعمقت رؤاه وأفكاره.

وقد جاء فوزه أخيرا بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في دورتها الثامنة عشرة (2022 ـ 2023) فرع القصة والرواية والمسرحية، انطلاقا من هذه التجربة الإبداعية المغايرة والثرية، التي تؤكد أعمالها أنه متنوع الثقافة ومتعدد الاهتمامات. وفي هذا الحوار مع صالح نضيء جانبا من جوانب هذه التجربة والمؤثرات التي أحاطت بها وتفاعلت معها.

يقول صالح لصحيفة “العرب” إن “البداية كانت مع القصة القصيرة، وذلك في أواخر 1969. وأصدرت مجموعتي القصصية الأولى ‘هنا الوردة، هنا نرقص’ في 1973. كانت القصص ثمرة قراءات عديدة ومكثفة في حقول الأدب بدأت منذ مراحل الدراسة المبكرة، وتحديدا المرحلة الإعدادية. كنت شغوفا بالقراءة. وفي موازاة هذا الشغف، نما ولعي بالسينما، والذي لم ينحصر في مشاهدة الأفلام فحسب، بل تعدّى ذلك إلى تعميق الثقافة السينمائية من خلال قراءة كل ما يتصل بفن السينما. وبلغ الولع بالسينما ذروته بتأجيج الرغبة عندي في دراسة السينما، في منتصف السبعينات، كعتبة أولى لممارسة العمل السينمائي كمخرج، لكن الحظ لم يحالفني، ولم أتمكن من الدراسة لأسباب مادية. وكتعويض عن إخفاقي في هذه الدراسة، اتجهت إلى كتابة الدراما التلفزيونية. وعندما قرر بسام الذوادي إخراج أول فيلم درامي طويل في البحرين، في 1990، وعرض عليّ كتابة السيناريو، لم أتردّد”.

ويضيف “ثم كان لانتعاش الصفحات الثقافية، في الجرائد والمجلات، الدور الرئيس في تحريضي على كتابة المقالات الأدبية والفنية. أما المسرح فقد أتاح لي فرصة تجريب قدراتي في هذا المجال. إذن المرتكزات تشمل الموهبة والرغبة الملحّة في التعبير عن الذات والواقع بمختلف الأشكال المتاحة، مع صقل مستمر للمعرفة الثقافية العامة وللطاقة الكتابية التي لا تهدأ”.

حول عملية الانتقال من جنس أدبي إلى آخر، ووجود فارق مثلا بين الانتقال من القصة القصيرة إلى الشعر والانتقال من القصة القصيرة أو الرواية إلى السيناريو السينمائي والتلفزيوني، يؤكد صالح أن “كل الحقول أو المجالات الأدبية والفنية التي خضت فيها هي متشعبة من مصدر واحد.. الكتابة. أنت لا تخرج من مجال إلى آخر مختلف في شكله وجوهره وعناصره، بل تنتقل إلى فرع آخر من الكتابة، الفروقات بينها تكمن في التقنية. أكتب القصة، كمثال، بتركيز على اللغة وطاقاتها البلاغية ومدلولاتها، وعندما أنتقل إلى السيناريو فإنني لا أركز على اللغة بل على الحدث والحوار (من عناصر القصة الأساسية). بالطبع، ليس كل كاتب قادرا على أن يخوض في هذه المجالات بسهولة وبرشاقة، إذ لا بد من توفّرالموهبة والمعرفة واستيعاب تقنية كل حقل. كل الفضاءات الأدبية والفنية مفتوحة لمن يرغب في ارتيادها. إذا امتلك المرء الموهبة، وتوفرت الرغبة، وتهيأت الظروف، تكون الطرق سالكة، والانتقالات يسيرة”.

ويرى صالح أن “التاريخ الأدبي والفني زاخر بشخصيات بارزة مارست مختلف الأشكال الأدبية والفنية، وأبدعت فيها. المثال الأبرز جان كوكتو الذي كتب الشعر والرواية والنقد ورسم وألّف وأخرج في المسرح وفي السينما. المثال الآخر بازوليني الشاعر والروائي والناقد والرسام وكاتب السيناريو والمخرج السينمائي”.

وينفي الكاتب أن يكون قد خشي أن تشكل هذه الاهتمامات المتعددة بين القصة والشعر والسيناريو والترجمة والكتابة السينمائية نوعا من الإرباك له وللقارئ، ويقول “أحب أن أشبّه نفسي بالممثّل الذي يؤدي شتى الأدوار من فيلم إلى آخر: مرّة هو طبيب، ومرّة هو مجرم، ومرّة هو طيّار.. وهكذا. مع ذلك، هذا لا يشكّل ارتباكا أو تشوّشا بالنسبة للممثل أو لغيره، لأنه يمتلك التقنية والأدوات التي يستخدمها لإقناعك بأن أداءه صادق ومتميّز. والمتفرج بدوره لا يشعر بالارتباك لأنه يميّز بين أداء وآخر، ويدرك أنه الممثل نفسه لكن في صور مختلفة. كذلك الأمر بالنسبة لي، عندما انتقل من شكل إلى آخر، فإنني أكون واعيا لطبيعة الشكل وما يقتضيه من تقنيات وأدوات، ولنوعية المتلقي الذي أتوجه إليه. متلقي القصة والرواية يختلف عن متلقي الفيلم والمسرحية. فلكل نوع أو شكل فني جمهوره الخاص. والانتقال لا يشكّل صعوبة ما دمت أعي طبيعة كل شكل وحدوده وإمكانياته ومتطلباته وعلاقته بجمهوره”.

وفي ما يتعلق بكون جل حواراته ذهبت إلى السينما والدراما التلفزيونية فيما ندر الحديث عن الرواية والقصة القصيرة، على الرغم من أن التجربة الروائية والقصصية تشكل أهمية فنية وجمالية كبيرة وتطرح الكثير من القضايا الإنسانية المهة، يشير صالح إلى أن “التركيز على السينما والدراما في الحوارات التي أجريت معي ربما ذلك ناجم من انتعاش المناخ السينمائي والدرامي التلفزيوني إعلاميا، مقابل انكماش الاهتمام الإعلامي بالنتاج أو الفعاليات الأدبية. بدأت كتابة القصة في 1969. البدايات كانت قصصا رومانسية ساذجة، ثم انتقلت إلى القصة الواقعية مع تنامي الوعي السياسي”، ويشير إلى أن “قصص السبعينات كانت ذات طابع سياسي، مباشر حينا، ومجازي حينا، ضمن توجه تجريبي. بعد ذلك، اتخذت القصة منحى آخر، تأثّرا بالمنجزات الفنية الحديثة التي اكتسبتها القصة آنذاك، بعيدا عن الإطار التقليدي في البناء والسرد واللغة. ومنذ الثمانينات، صرت أميل إلى خوض تجربة النص المفتوح، حيث التفاعل مع أشكال فنية أخرى وفق حساسية جديدة”.

ويوضح صالح “أنت تكتب بدافع أو بتحريض من رؤية ما، فكرة ما، رغبة في التعبير أو البوح عن تجربة.. قد تكون تجربة عشق أو ذكريات لحوحة أو أحداثا تتصل بك وتؤثر فيك عاطفيا أو نفسيا أو سياسيا، فتسعى إلى التعبير عنها من خلال نص يتشكّل تدريجيا، ويكتسب حياة غالبا ما تكون ذاتية النمو والتشكل، ومستقلة عن الخطط والتصميمات والأفكار التي وضعتها سلفا، أي أن النص غالبا ما يتخذ بذاته كينونة خاصة به، خارج إرادتك أحيانا وبمعزل عن رغباتك ونواياك. عند البدء بالكتابة، لا أظن أن ثمة بوصلة تحدد مساري، صوب جهة أو أخرى. ولا خرائط أيضا. إنه أشبه بسفر إلى مجهول لا تعرف تضاريسه، ولا إلى أين تفضي بك المسالك”.

يؤكد الكاتب البحريني “ثمة رغبة ملحة في الكتابة، رغبة تصعب مقاومتها، وما أثار أو أيقظ هذه الرغبة بداخلي شيء قد يكون غامضا (ربما صورة من حلم أو شذرة من ذاكرة) أو شيء يمكن معرفته لكنه نتاج الصدفة (عنوان يخطر بالبال، محادثة، لقطة من فيلم، لوحة.. إلخ). إذن الرغبة تأخذني إلى أرض لم أزرها من قبل، أرض عذراء، وتبدأ الأشياء في التشكل كلما خطوت وتعثرت. أجد عند كل منعطف شيئا ينتظرني ليلهب مخيلتي: ريحا، مرفأ، بشرا، حقولا.. عوالم تنبثق تريد أن تحتل مكانا في النص. وأنا أمضي غير عارف إلى أين سأصل ومتى.. لا شيء واضح، لا شيء محدد، تأخذني اللغة، تأخذني المخيلة، وترمي بي في أفران النص. عندما أكتب نصا وفق مخطط موضوع سلفا، أو وفق عناصر محددة تدلني إلى المسالك والمنافذ والمخارج حتى النهاية، فإنني أشعر بالضجر وأكف عن الكتابة، لأنني عندئذ أفتقد الخاصية الأهم للكتابة: المتعة. لذلك أحب أن أبدأ في الكتابة وليس بحوزتي غير خيط أو صورة.. حتى لو كانت غامضة. النص إذن يشكّل نفسه انطلاقا من صورة معينة أو جملة أو انطباع. هناك أمور معقدة وغامضة جدا تحكم الكتابة وليس العكس، ليس الوضوح والمنطق والنظام المعرفي هو الذي يحكم”.

ويرى أن “هناك صعوبة في تحديد كيفية بناء الأفكار. إنها عملية معقدة جدا. ليست هناك خطة معينة، أو منهاج معين، وفقا له وفي ضوئه تقوم ببناء الفكرة. الفكرة تخطر لك، هكذا، من دون تصميم مسبق، وهي قد تنبع من مصادر متنوعة: من حلم، من صورة، وأنت تمشي، تتأمل، تنظر إلى لوحة، أو تصغي إلى مقطوعة موسيقية.. منابع ومصادر عديدة ومتنوعة.. لكنها ليست محكومة بمنطق خاص، وآلية محددة ومفهومة. قد يحدث كل شيء بيسر شديد، ومن دون إعاقات، وقد يستغرق الأمر وقتا طويلا، وربما تصرف النظر عن الفكرة”.

ويقول صالح عن الشعر وأبرز ملامح تجربته الشعرية في سياق المشهد الشعري البحريني “لا أكتب القصيدة، بالشكل المتعارف عليه للقصيدة، إنما أحاول أن استثمر الطاقة الشعرية الكامنة في السرد، بعون من اللغة الشعرية.. لذلك يعتبرني النقاد شاعرا بطريقتي الخاصة، وفي مجالي الخاص.. أو حسب تعريف الناقد المغربي رشيد يحياوي: السارد شاعرا. والسؤال عن ملامح التجربة ينبغي أن يوجّه للنقاد، هم أقدر من الكتّاب في تحديد أو تقرير مثل هذه الأمور”.ويضيف “الكثيرون يعتقدون أن الشعر يتصل بالقصيدة وحدها، رغم أننا نصادف المئات من القصائد التي تخلو من الروح الشعرية وتفتقر إلى الحساسية الشعرية، ولا تتسم صورها ولغتها بالشعرية، في حين نجد الطاقة الشعرية كامنة في السرد، في الصورة السينمائية، في اللوحة التشكيلية، وفي أشكال أخرى. إذن الشعرية ليست دخيلة أو متطفلة على البناء أو المناخ السردي، وإنما هي مكوّن أو عنصر أساسي في العمل الإبداعي”.

ويبين صالح أن شعرية السرد عنده نابعة من إيمان عميق بأن للسرد طاقة شعرية هائلة لم تُستغل بعد، ولا يحاول كتّاب القصة والرواية سبرها واستكشافها واستثمارها. ويقول “هي، عندهم، معطلة، مشلولة، بالأحرى، هي موضع استنكار وازدراء ونبذ. هذه الطاقة الشعرية للسرد أحاول أن أوظفها لإغناء نصي، فمن خلالها أسعى إلى تعميق علاقة كائناتي بالواقع، في تشعباته اليومية والحلمية والتخيلية، وبغير هذه الطاقة تصبح لغة السرد جافة، مباشرة، إنشائية، لا روح فيها ولا عذوبة ولا جمال. أن يتسم نصّ بالشعرية، أو أن يتخلل الشعر أنسجة النص، فذلك ليس تهمة يتوجب على الكاتب دحضها أو التنصل منها أو الدفاع عن نفسه إزاءها. فالشعر جوهر كل كتابة، كل فن، بمعنى أنه متجذر ومتأصل في كل فعل إبداعي”.

ويرى أن “من الخطأ الاعتقاد بأن الشعر يخص القصيدة وحدها. هذا فهم قاصر لمعنى وطبيعة الشعر. فالسرد يمتلك خاصية شعرية، كذلك الصورة السينمائية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية والمنظر الطبيعي في وجودنا. الشعر موجود حولنا وفي كل مكان، فلماذا تستكثر أن يوجد في القصة أو الرواية؟ من الضروري أن ندرك بأن الشعر يوسّع تخومه، وراء حدود الاتصال اللفظي، لمعانقة أشكال أخرى من التعبير الفني.. بمعنى آخر، الشعر أفق مفتوح على مداه، ليشمل كل فعالية إبداعية”.

وحول مسارات العلاقة بين الدراما التلفزيونية والسينمائية والقصة والرواية وإلى أي مدى يكمل أحدهما الآخر، يوضح أمين صالح “هي أشكال فنية متجاورة، تتفاعل فيما بينها، ويؤثر أحدها في الآخر إيجابيا. وعبر هذه الأشكال يمكن للمرء أن يعبّر عن رؤاه لكن بطرائق مختلفة، وعبر لغة مختلفة، وتقنيات خاصة يتميّز بها كل شكل. عندما أجد أن الرواية تسعف الرؤية والفكرة والمخيّلة أكثر من الدراما التلفزيونية فإنني ألجأ إلى الرواية، والعكس صحيح”.

ويرى أن من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات بين المشهد الإبداعي والثقافي البحريني في مرحلة انطلاق تجربته في السبعينات والمشهد الآن، ويضيف “أمر طبيعي، وحتمي، أن يكون هناك اختلاف بين الأجيال المتعاقبة، نتيجة التطورات السريعة. في السبعينات من القرن الماضي لم يكن هناك فاكس وكومبيوتر وإنترنت. وسائل التواصل كانت أبطأ بكثير مما نرى الآن. في السبعينات لم تكن طباعة الكتب يسيرة، ولم يكن نشر الكتب متاحا كما الآن. حاليا، صار النشر متاحا وسهلا أكثر مع توفر النشر الإلكتروني. وهذا ربما دفع الكثير من الكتّاب إلى التهافت على النشر، والتسرّع في طباعة الكتب من دون مراجعة نقدية لها أو التأني في إصدار أعمالهم. إبداعيا، لكل جيل مبدعوه وموهوبوه، ثمة وجوه تظهر ووجوه تختفي ووجوه تستمر وأخرى تتوقف ووجوه تموت وأخرى تولد. القراءات مختلفة، وكذلك الاهتمامات مختلفة”.

ويختم صالح بالقول إن “الحراك الثقافي في البحرين الآن حيوي خاصة على مستوى الإبداع، ثمة أصوات موهوبة في القصة والرواية والقصيدة، تقدّم نتاجات لافتة وجريئة على مستوى الشكل والمضمون، وهي بحاجة فقط إلى من يسلّط الضوء عليها لتثبت حضورها في الساحة العربية”.

جريدة العرب
٢ مارس ٢٠٢٤م

شخصية أدبية