يحرص هذا الجيل أن تكون له تجاربه الخاصة، وخطه المتميز بحكم الظروف النفسية والاجتماعية والتاريخية التي ولد فيها ويعيشها، وبالرغم من أن هؤلاء الشباب جاؤوا في زمن هو ليس بالزمن الصعب، زمن المرارات والانكسارات والخيبات الذاتية والاجتماعية التي شهدتها سنوات الستينات، إلا أن بعضهم تسلح ببصيرة جديدة وأسلوب في التحليل، متحررا من كثير من عقد الاستعلاء ومرارات الماضي. فواز الشروقي من شعرائنا الشباب الذين ساهموا في الحركة الأدبية في مملكة البحرين، وواحدا من الأصوات الشعرية التي حملت روح التجديد والمبادرة. تعرف على تجارب الرواد وأسس تجربته الخاصة في ترسيخ القيم الأدائية في القصيدة. وهذا اللقاء الذي أجرته معه “البلاد” يعبر عن نهجها في تسليط الضوء على الأصوات الشبابية المبدعة.
* أبرز ما يميز العمل الروائي ليس قدرة الكاتب على أن يمنح أبطاله الحياة، بل قدرته على متابعة خط التطور في حياتهم، بشكل ينسجم مع ذواتهم، ويكون خاليا من الفجوات أو القفزات غير المعقولة. وهذا كان واضحا في روايتك “ثم حلقت لحيتي”، و “الدفنة” فما رأيك؟
مؤلّفي “ثم حلقتُ لحيتي” لم يكن رواية، وإن كان الكثيرون يعدّونه كذلك. لا أستطيع أن أصنّفه على وجه الدقّة. أراه أقرب إلى الفكر منه إلى الأدب. وأرى أن البطل الحقيقي هو السؤال الذي يكبر مع السارد، ويدفعه إلى البحث والتغيّر والصدام مع الأفكار القديمة. أما روايتي “الدفنة”، فقد حاولت جاهدا أن أجمل قصة بطليها “سلمان” و”هناء” في فصلين طويلين. الفصل الأول يمثّل طفولتهما، والفصل الثاني شبابهما. وقد حرصت على أن يكون مسار الرواية واقعيا منسابا من غير قفزات، بالصورة التي تمثل تطور حياتهما معا، من خلال خطين متوازيين في بعض الفصول ومتقاطعين في فصول أخرى. وما أسعدني أنّ الكثيرين اعتقدوا أن القصة حقيقية، وهي بكل تأكيد من محض الخيال.
* هل تتصور أن الطاقات الأدبية الشابة التي تنتمي إليها هي الان الوجه المضيء للحركة الأدبية الحالية في مملكة البحرين؟
لدينا عناصر شبابية مبدعة في الأدب تصدر أعمالاً أدبية جيدة، ولكن لا توجد لدينا حالياً حركة أدبية. الحركة الأدبية نشأت مع نشأة أسرة الأدباء والكتاب في نهاية الستينات وانتهت في التسعينات، مع اختيار أعضائها المؤثرين العمل بشكل فردي في حقل الأدب. هناك مؤسسات ثقافية مجتهدة تنشط في البحرين، تنظم فعاليات. ولكن لا يمكن أن نطلق على نشاطها أو نشاط أعضائها حركة.
كمتابع ومتذوق.. استطاع الشاعر فواز الشروقي أن تكون له لغة جديدة تشع من حولها هالة متميزة في الأداء الفني وانتقاء الألفاظ.. ما تعليقك؟
أتمنى أن أكون قد حققت ذلك. كنت أسعى دائما ألا أنجرّ إلى التقليد، أو الإغراق في الغموض. منذ بدأت كتابة الشعر، قرّرت أن أتجنّب اللغة الغامضة. وشرعت في الكتابة عن المشاعر العامة، والمواقف اليومية، وعن الحبّ بكلّ تقلباته وأحواله. ولم أستمع في يوم للقائلين بأنّ موضوع الحبّ مستهلك وأن الكتابة عنه ترف. فقصائدي التي أعتز بها وأقدّمها على ما سواها كلها في الحب. أما اللغة، فإني حاولت قدر إمكاني جعلها قريبة من لغتنا اليومية، وإن كنت أكتب، وما زلت، باللغة العربية الفصحى، ولكني أسعى أن تكون قريبة من الناس. وهذا القرب لا أعدّه منقصة، بل ميزة. كما حاولت أن تكون لي لغتي الخاصة. لغة تشبهني، تعبّر عن مشاعري أنا، وعن نظرتي للمواقف التي أتعرض لها، وأتمنى من كل قلبي أنني وفقت في ذلك.
* كيف تصف الحركة النقدية في البحرين اليوم؟
منذ أن توقف النقد الانطباعي في البحرين، لم أجد ما يشفع للنقد أن يستمر. ربّما توقف من غير أن أشعر، أو يشعر به الآخرون. من يكترث للنقد الأدبي الحالي الآن؟ ما جدواه؟ النقد الأدبي الحالي، في البحرين أو غيرها من الأماكن، في الغالب هو “محض ثرثرة جوفاء”. أحترم جميع النقاد، ولكن لا أجد أي منفعة في الكثير مما يكتبه أكثرهم عن النصوص الأدبية. هذا طبعا من غير أن نغفل الجهود التي يبذلها بعض النقاد، وهي جهود مشكورة ومقدرة. وما قلته مجرد وجهة نظر عفوية، قد ألام عليها. لقد أصبح واضحا أن الشعر الحديث هو المقروء، لكن ظاهرة وصول الشعر الحديث إلى الجمهور لم تتم بالشكل المطلوب.. بم تعلل ذلك؟
نعم. الشعر الحديث هو الأكثر قراءة في البحرين وفي جميع الدول. ولا أقصد بالشعر الحديث قصائد التفعيلة أو النثر وحسب، بل حتى الشعر العمودي أدرجه من ضمن الشعر الحديث، إن كان مضمونه وأسلوبه وتراكيبه حديثة. القصائد التي تُكتب اليوم بلغة الحطئية وعمرو بن كثلوم وعروة بن الورد وأبي تمام لن تجد رواجا في عصرنا بكلّ تأكيد، وأنا أوّل المحاربين لها. ولكن يجب أن نعترف بأن القصيدة العمودية بدأت تكتسب جاذبية أكبر من قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر بعد أن نفض أصحابها عنها لغتها القديمة، ومنحوها حياة أخرى عبر لغة مفعمة بالحياة والجدّة.
* هناك اتهام أسمعه دائما وهو عزلة المثقف أو غربته التامة في المجتمع. هل هذا صحيح؟
قد يعتزل المثقف بعضا من الوقت لكي يأتي بأفكار جديدة، وأعمال باهرة. قد يعيش المثقف سنة بعيدا عن الناس ليخرج بعمل يكون أقرب إلى الناس. قد يحتاج المثقف إلى العزلة. وقد تحتاج أعماله إلى الانكفاء عليها، والانقطاع عن الناس لها. ولكن هذه العزلة لا تجعله غريبا عن المجتمع. لأنه يكتب للناس وعن الناس.
* يتجاذب الأديب عاملان. العامل الأول ولاؤه لنوازعه الخلاقة ولأشكال التعبير الذاتي، والعامل الثاني إغراءات النجاح التجاري وانتشار السمعة بين الناس، فإن هو مال الى هذه الإغراءات، فإنه يخون بعض فضائله الثقافية، وإن هو حافظ على مستوى النوعية والمناعة الذاتية فإنه يتعرض لفقدان جمهور كبير من القراء. كيف تنظر إلى هذه المعضلة؟
لا أتفق مع المعتقدين بأن السعي نحو النجاح التجاري وتحقيق السمعة خيانة للفضائل الثقافية. من حق المشتغل في الحقل الأدبي أن يسعى للانتشار وإلى النجاح التجاري لأعماله، دون أن ينتقص ذلك من قيمه الأدبية ومبادئه. بإمكان المرء مسك العصا من المنتصف. ولنا العديد من الأمثلة عربياً وعالمياً. هناك شعراء مثلاً أصبحوا نجوماً في وسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعوهم بالألوف. لا يمكن اعتبار هذا الأمر خيانة للفضيلة الثقافية. وأنا متأكد أن أغلبهم درس جمهوره جيداً، وقدّم مادة أدبية تتوافق مع مبادئه الأدبية، وتتناسب مع ذوق متابعيه.
* ماذا تريد أن تحققه لنفسك، وللأدب العربي أو لنقل المحلي وأنت في هذا العمر الكفيل بتحقيق الاحلام؟
مخاوفي أكثر من أمنياتي. أخشى أن يأتي اليوم الذي لا أجد لدي ابناً يفهم قصائدي، أو يتمكن من قراءتها حتى. الجيل الجديد لا يقرأ إلا الكتب الإنجليزية. أخشى على لغتنا العربية من الضياع. الكثير من اللغات في شتى أصقاع العالم قد انقرضت، ولا تجد اليوم من يتحدث بها. أخشى على لغتنا العربية من هذا المصير. حلمي فقط أن أرى ابني بعد عشرين سنة يُعجب بقصيدة لي. قصيدة واحدة لا أكثر.
* يقول ليفنز في صدر كتابه القيم.. “لكل عصر مفاهيمه وتصورته للشعر”، أي للموضوعات الشعرية أحيانا، وخامات الشعر، والاحوال الشعرية. على اعتبار أن كل ما هو جديد فوري تلتقطه الحواس في كامل يقظتها.. ما تعليقك؟
هذا صحيح بالطبع.. وأضيف على ذلك أن لكلّ شاعر مفاهيمه وتصوره للشعر. يجب على كلّ شاعر أن يضيف الطابع الخاص به على أعماله الشعرية. لا أفترض بأي حال من الأحوال أن يكون لمئة شاعر في عصر من العصور طابع واحد. أنا أفترض أن يكون لكل واحد منهم طابعه الخاص. انظر إلى الشعراء العظام من أيام العرب الأولى إلى اليوم. لا يصبح الشاعر عظيماً إلا إذا كانت له بصمته الخاصة. من أراد أن يكون مثل المتنبي لم يصبح بقيمة المتنبي. ومن أراد أن يكون نسخة أخرى من نزار قباني صار نسخة رديئة. ومن اعتقد أنه يسير على خطى أدونيس، تعثّر ولم يصل إلى أي مكان.
* نعلم أن مدرسة – إليوت – هي مدرسة “إعادة الشعر إلى الحياة” أي استلهام لغة الحديث اليومية، والتراث الشعبي في تركيب القصيدة الحديثة.. إلى أي مدى تحقق ذلك في الشعر البحريني الحديث؟
لدينا في الشعر العربي الفصيح معضلة أخرى. نحن نتحدث بلغة ونكتب بلغة أخرى. لذلك نحاول أن نقرّب المسافة بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية. إذا لم نُجر هذه التقريب سنجد قطيعة بين ما نكتبه وما نشعر به أو ما يشعر به الآخرون. قد يكون الأمر أسهل بالنسبة لشعراء القصيدة العامية؛ لأن من المفترض أنهم يكتبون باللغة التي يحكون بها.
* مشاريعك المستقبلية؟
سأنتهي قريباً من إعداد ديواني الشعري الثالث. ثم سأقرر هل سأطبعه أم لا. لماذا؟ لأن همّي أن تصل قصيدتي إلى الناس، سواء كانت ضمن ديوان، أم كانت منشورة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
أسامة الماجد
جريدة البلاد البحرينية
٢٢ ديسمبر ٢٠٢٣م