نافذة سؤالها بسيط، لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التّساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ، في زماننا هذا، يُبكي أحدًا؟ تكاثرتْ كتبه، وتراكمتْ قصائده، جيلًا بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة، سنلتقي ضيفًا ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر، وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
هنا شهادة الشّاعر والناقد البحريني كريم رضي.
كريم رضي: دائمًا في الدموع بقيّة
يُبكيني الشِّعر أحيانًا، وربما كثيرًا، بما في ذلك حتى شِعري حين ألقيه، خاصة لو ارتبط بذكرى، مثل الأم، أو الأب، أو حين أقرأ مأساة شعرية عن مقتل الحسين عليه السلام، يُبكيني حتى مجرّد بيت، أو بيتين، للشاعر الشيخ محسن أبو الحب:
إذا ذكر الحسين فأيّ عينٍ / تصون دموعها صون احتشام
بكته الأنبياء وغير بدعٍ / بأن يبكي الكرامُ على الكرامِ
أو مثل بيت الشاعر العراقي سيد حيدر الحلّي، في وصف حال زينب، أخت الحسين، يوم عاشوراء:
مشى الدهرُ يوم الطف أعمى فلم يدعْ / عمادًا لها إلا وفيه تعثّرا
وثمّة من يزعم أن الشّاعر أحمد شوقي، أمير الشعراء، لما اطّلع على هذا البيت قال: "ما يقول هذا بشر". وهنالك بيتان من رائية الشّاعر القديم، ابن العرندس الحلّي، في الحسين أيضًا، يصف فيهما نفسه متناصًا مع الشاعرة الخنساء أخت صخر، والتي قضت عمرها في رثائه بقوله:
وطابق شعري فيكمُ دمع ناظري / فمبيضُّ ذا نظمٌ ومُحمرُّ ذا نثرُ
وعيناي كالخنساء تجري دموعها / وقلبي شديدٌ في محبّتكم صخرُ
أما من الشِّعر البحريني القديم في هذا الباب، فتظلّ رباعية ملحمة الدمستاني الخالدة تشبه إلياذة بحرينية، ومنها قوله:
أيّ عينين بقاني الدمع لا تنهرقانْ
وحبيب المصطفى في الأرض مصبوغٌ بقانْ
دمهُ والطين في منحره مختلطانْ
بشكل عام، لديّ دمع سهل جدًا حين يتعلّق الأمر بالحسين، سواء كان الشِّعر حديثًا أم قديمًا، مثل قصيدة أمل دنقل، وجزء من قصيدة لأدونيس، أو حتى دارجًا باللهجة العراقية، أو البحرينية.
لا أعرف إن كان هذا البعد دينيًا، ولستُ أخجل من ذلك على أية حال، فالدين جزء من صميم تكويني، وملحمة جلجامش كانت تُقرأ كمناحة مأتميّة مبجّلة لآلاف السنين في هذا الإقليم، فثمة ميثولوجيا مشتركة عميقة الجذور، بعيدة الغور، في هذا الحوض العراقي البحريني. لكن قد لا أعيده فقط، أو حصريًّا، إلى الدين، وحده، بقدر ما أن ثمّة ارتباطًا روحيًا يربطني شخصيًا بالحسين، أنا مقتنع بشعوري أنه وجد بيننا يومًا ما، حتى قبل أن أولد. ثمّ نشأتُ وكبرتُ في بيئة مسحورة بالحسين، لكأنّ هذا العيش لم يكن جديدًا، بل كأنّي كنتُ أكملُ مسيرة كانت موجودة قبل أن أخرج إلى الحياة. أحفظ قصائد شبه كاملة، وأذوب في معانيها حتى الفناء، بوصف شوقي في أغنية كيلوباترا (كالخمرة في النور المذابِ).
في الشِّعر الحديث، وبعيدًا عن الملحمة الحسينية التي ذكرتها أعلاه، تُبكيني القصائد التي تنعي الإبادات الشاملة في تاريخ البشرية، بل وحتى الأفلام التي تتطرّقُ للهنود الحمر، أو فلاحي دنشواي في الحملة الفرنسية، وقد اكتشفتُ دموعي تفلتُ مني وأنا أشاهد فيلم "آفاتار"، مع أنه خيالي تمامًا، بأحداثه وصوره وشخوصه، لكن فكرة تدمير مجتمع مسالم معزول، أو مجموعة بشرية محاصرة من قبل قوة ضخمة، دائمًا ما تبكيني بسهولة شديدة، مثل مذبحة سربنيتسا، أو تلّ الزّعتر، أو حماة، أو صبرا وشاتيلا، أو دير ياسين. ومثل ذلك قصيدة للشاعر الكردي، شيركو بيكه س، عن المذابح التي تعرّض لها الأكراد، وقصيدة محمود درويش "خطبة الهنديّ الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض".
دائمًا في الدموع بقيّة، ها أنا ذكرتُ "ماذا" يُبكيني، لكن "لماذا؟!". قد أحتاج إلى تخمين أكثر من إلى تحديدٍ. أعتقد أننا نبكي دائمًا لشيء دفين في نفوسنا، تخرجه قصيدة مثل هذه القصيدة، أو فيلم مثل فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، أو خبر مثل صور الأطباء الوسيمين الذين رحلوا في مواجهة وباء كورونا في بلدان عدّة. وطبعًا، هذا الجرحُ الدفين يختلفُ من شخص إلى آخر، فلكلّ ما يُبكيه. ويبدو أنني شخصيًّا سريع الدمعة أمام الضعف الإنساني من ناحية، وأمام النُبل الإنساني من ناحية أخرى، نُبل التضحية والفداء من دون استسلام، ولكن، أيضًا، من دون ضجة، ربما أقول هو الاستسلام الأنيق الذي هو من العلو والسمو بحيث لا يمكن وصفه بالذّل، بل بالتعالي على زمنية هذه اللحظة، في مواجهة الموت، ولولا أني لا أريد ابتذال المفردات.. لقلت "الخلود".
موقع ضفة ثالثة.