تُعرف المرجعية عمومًا بأنها كيانات ثقافية تمنح الخطابَ (المتن الأدبي) انتسابه إلى معرفة يوظفها ويتكئ عليها خدمة لإيصال مدلولاته وما يرمي إليه، ثم تمتد هذه المرجعيات الثقافية cultural references بين السارد والمتلقي عبر المتن؛ لكي ينتج عملًا إبداعيًا، وهناك أوجه مختلِفة لتلك المرجعيات، فمنها الاجتماعية والتاريخية والفلسفية، وكذلك الدينية واللغوية، وما يهمنا في هذا المقام هو المرجعية اللغوية، حيث نسلط الضوء من خلالها على رواية «رائحة القميص» للكاتب البحريني خليفة العريفي الصادرة عن دار الغشّام للنشر والتوزيع 2016.
ولمّا كانت هذه الرواية حقلًا جميلًا للمجاز الفني، فقد وجدنا من الضرورة بمكان أن نُعرِّف المرجعية اللغوية من خلال إطارها الفني أولًا، ثم البحث في «رائحة القميص» عن تلك المقومات، لنطلق حُكمًا على جمال النص أو الخطاب من حيث كونه عملًا إبداعيًا.
تعريف المرجعية اللغوية:
تُعرف اللغة على أنها نظام من الأصوات (phonetics) والرموز(symbols) والاشارات (signals) يتواصل بها الناس ويعبِّرون بها عن أغراضهم، ويخضع هذا النظام لقواعد وقوانين مشتركة. وأما في الحقل الأدبي، فإن اللغة أداة التواصل بين السارد والمتلقي، وإيصال المدلول من العقل الفردي إلى العقل الجمعي. وعليه يكون الكاتب هو ذلك المثقف المتسلح بالمعرفة، القادر على توظيف لغته لسرد الواقع والمتخيل ثم إلقائها في ساحة المتلقي؛ ولذلك نؤكد أن المرجعية هنا قائمة على أضلاع ثلاثة: الكاتب والنص والمتلقي؛ ومتى أصاب الوهنُ أحدهَم، أصيبت المرجعية بانتكاسة حادة. فلا يمكن للنص أن يمارس فعله الإبداعي دون أن يضع في اعتباره قارئًا مبدعًا، قارئًا قادرًا على التأويل.
المرجعية اللغوية في «رائحة القميص»:
1 - التراكيب المجازية(figures of speech) : كثيرًا ما يتم الخلط بين الدعوة لاستخدام لغة مجازية وبين استخدام مفردات معقدة وغير دارجة، وهو استنتاج في غير محله؛ فاللغة الجميلة الحية هي السلسة والبعيدة عن التعقيدات، ولكنها في الوقت نفسه قادرة على استخدام البلاغة اللغوية بصورة ترسّخ المعاني في عقل المتلقي، ومن هنا وُلِد المجاز؛ وكما نعلم جميعًا؛ فإنّ لكل مجاز حقيقة، وإن القدرة على نقل الحقيقة من موضعها إلى موضع آخر يُعتبرُ مجازًا، تُرسم فيه الصورُ البلاغية، ويثبت الغرضَ المقصود في ذات المتلقي بالتخييل والتصوير حتى يوشك أن ينظر إليه بأم عينيه.
فيُسنَد الفعلُ إلى غير فاعله مع بقاء القرينة، وتُستعمل الكلمة في غير ما درجت عليه، وترسم الصورة بأقل عدد من المفردات، وتُشعر المتلقي بجوها ومكانها وزمانها، حتى يكاد المتلقي أن يستنشق عبير اللحظة من خلال العبارات التصويرية... لنرَى بعض تلك الغزارة اللغوية عند العريفي في «رائحة القميص»:
- مدّ رقبته فوجد المكان ينام في الظلام (ص 125): من خلال معاينة الجملة السابقة، نجد أن كلّ الكلمات سهلة سلسة دارجة، فبدلًا من القول إن المكان مظلمٌ، استبدله مجازًا بـ (ينام في الظلام)، فاستعار الظلام بدلًا عن النائم ليوحي بأن كل المكان غارق في ظلام دامس، لا نور فيه ولا حركة ولا صوت ... تعبير يستثير الذائقة ويكرس المعنى، ويصرف الذهن عن المعنى الحقيقي، ويثبت الصورة المتخيَّلة بتعبير مجازي.
- وقوله في الصفحة نفسها: (لا تقولي إنك نمت يا جميلة، فما زال الليل طفلاً) ... تشبيه الليل بالإنسان في مراحله العمرية، استعارة مكنية للتعبير عن أنهما كانا في بداية الليل.
- عاريان في اللامتناهي، لا يحيط بهما سوى المجهول (ص167) يصف البحر بـ اللامتناهي للدلالة على غياب الأفق فيه، فقام بنقل اللفظ من معنى إلى آخر، فأصبح ولا حدود له، بدلًا من قول الواقع: عاريان في عرض البحر.
- عندما فتحت عيناه جفنيهما مرة أخرى (ص 175)... أحال فعل الفتح للعين، وأوقعه على الجفنين، فأحال إليه صورة التثاقل الذي يريد توضيحه في وصف المشهد.
- الحلوى واللوز والصبار، تحرس كل ذلك دلةُ القهوة النحاسية الكبيرة (ص195).
هنا تشبيه آخر، حُذف أحدُ طرفيه، فشبه الدلّة بالحارس، وأوكل لها مهمة الحراسة، فأدخل المشبه في جنس المشبه به.
- الليل هنا فاكهة أخرى (ص 198)... يهبك المجاز القدرة على تذوق طعم الليل وملامسته.
- عندما سمعتُ ذلك الطلق الناري يهتك عفّة الصمت (259)... وهل للصمت عفّة حقيقية؟ ولكنها الصورة المجازية التي يحيلك إليها اللفظ ويحفر معناها في ذاكرة المتلقي.
2 - التراكيب العجائبية(hyper reality)
يُعرف الأدبُ العجائبي على أنه الخروج عن المألوف والقفز إلى ما فوق الطبيعي بتجاوزه للواقع والتفافه حول الفانتازيا، والنص العجيب يتقبله القارئ رغم خرقه للمنطق وقفزه فوق القوانين(1)؛ فأين استطاع العريفي توظيف ذلك في «رائحة القميص»؟
- جاء الحوار على لساني البطلين (عيسى البحار وفاطمة) بينما كان هو في عرض البحر وكانت هي قابعة في سجن القصر، تتوق روحاهما لبعض، ويستشفُ الموقفُ التصويري شوقهما، وهنا تمخض المشهد عن ولادة خطاب حواري بين روحيهما (ص 76/77):
(تعال اشتقت للرائحة
أنا أشتاق جسدًا أرقه الحرمان
تعال البرد يجتاحني
وأنا أحترق)
... ينقطع الحوار باقتحام طلال للحوار، يوقظه من الحلم، ويتواصل الحوار معه مجددًا، وكأن الأمر لا تكلف فيه، أمرٌ بديهي واقعي...
وفي (ص233) يأتي حوارٌ آخر بينهما، فقد كان عيسى في البحر وكانت في سريرها:
(كلما داعب طيفك خيالي، أحسستُ أني أُصلي.
لصلاتك وقع الهديل أسمعه نابضًا بالبياض)...
3 - الحس المسرحي
نعرف أن الحوارات المسرحية تأتي على صور مختلفة، فمنها الحوار الذي يرسمه المؤلف على لسان شخصياته وتستمع إليه الشخصيات فيما بينها، ومنها حوار المناجاة الأحادي، والحوار الجانبي الذي تلقيه إحدى الشخصيات وتوجهه مباشرة للجمهور، وكذلك حوار الراوي أو المؤلف الموجه للجمهور دون أي تفاعل مع شخصياته، وكأنه عنصرٌ خارجي.
أدخل العريفي هذا «التكنيك» التجريبي بسبب هيامه بالمسرح عمومًا، فصارت المسرَحةُ جزءًا من الرواية تعكس تداخلًا للأجناس. ونستطيع أن نحدد ذلك في ثلاثة مواضع مختلفة:
- هذا أنا... تعالوا معي سندخل قصرًا مشيدًا... (ص 7)
- أنا من جديد... انا حزينٌ جدًا... (ص120)
- هذا أنا من جديد... مازلتُ أتابع الرحلة معكم... (ص 198)
4 - الإيحاءات والإسقاطات
يذكر عالم النفس سيغموند فرويد(2) أن الإسقاط (projection) حيلة لا شعورية من حيل دفاع الأنا، فينسب فيها أفكارًا لغيره لأنها تؤلمه في ذاته، وربما يبحث في مجتمعه عن أمور مثالية يتمناها، أو سلبية يستعديها، ولكنه يتجنب الحديث فيها بصورة مباشرة لكيلا تُنسب إليه... فهل يمكن قراءة ذلك في لغة العريفي؟ هناك مثالان واضحان نستشهد بهما:
* خرج شيء أشبه بالشهيق. بل لا يمكن أن نطلق عليه صوتا بشريًا... الشمر (ص 209)... هي مفارقة يُقصد من خلالها التذكير بقبح الشكل والمضمون في شخصية شمر بن ذي الجوشن الضبابي قاتل الإمام الحسين بن علي (ع)... ولذلك استخدم فيها أقبح الصفات؛ من أجل أن يذم شخصية (سلمان) بإسقاطه على شخصية الشمر...!
* هل السلاح مسموحٌ به هنا؟ لا طبعًا، ولكن هؤلاء لا حرج عليهم (ص 213)
إسقاط آخر يراد به تسليط الضوء على منع حمل السلاح قانونًا، ولكن الاستثناءات تطال المتنفذين والقادرين، إنه نقدٌ ضمني للمجتمع لا يستطيع الكاتب البوح به مباشرة فعواقبه لن تُحمد، ولكنه آثر إسقاطه من خلال نتاجه الخطابي الأدبي.
5 - التأويل والدلالة(semantics)
لا يكاد يخلو نصٌ أدبي من محاولات القراء المتكررة للـتأويل، فإذا كانت فكرة الرواية متكاملة يتقبلها الجميع بلا جدال، فهي فكرة ميتة (3) ولذلك فالتأويل هو جزءٌ ومكون مهم من النص الأدبي، وبالعودة إلى رائحة القميص، لم يُصرح الكاتب عن مكان «القصر» ولا عن شخصياته، ولكن ترك حق التأويل مشرعًا للمتلقي.
6 - الخاصية الجمالية
إن مرجعية الجمال تعني الاهتمام بالتقنية للنص الروائي، وكيفية رسم الزمن بحرفية تقنية، ووصف (المكان) وجماليات جزئياته، ووصف الشخوص (characters)، بالإضافة إلى كيفية توظيف كل ذلك من أجل خدمة الموقف السردي أو الوصفي أو الحواري، ثم مزج كل ذلك مع المتخيل(4) في بوتقة النص.
ولعل العريفي استطاع أن يصف الأماكن (كالقصر والبحر والقرية...)، ولكنه لم يُوف الزمان حقه، وترك ذلك في حقل التأويل ... ولكن ما يلاحظ أن العريفي قد عزف عامدًا عن وصف الشخصيات الرئيسة كما ورد عن لسانه، وكم تمنيتُ أن يرسمها فعلًا، فقد كانت الحاجة ماسة لاستشعار تلك الشخصيات، وهي من الأمور التي تزيد النص متانة وتحفره في ذاكرة المتلقي.
الخاتمة:
إن من أهداف اللغة تصنيف الأشياء الكونية ثم التواصل بهذه الأشياء مع الآخرين، وبما أن جنس الرواية غالبٌ - في عصرنا هذا - على الأجناس الأدبية الأخرى؛ فقد أصبح من الضرورة الملحة مراعاة تقنياتها ومرجعياتها الثقافية إبّان الكتابة، وتأتي اللغة الأدبية ضم تلك الأولويات، ويُطالبُ معها الروائي أن يرتفع بأحداثها لغويًا ثم ينزل بها بحسب توارد الشخوص، فاللغة تختلف من مجتمع لآخر باختلاف ثقافته، وعلى الكاتب أن يُراعي المفردات بحسب اختلاف المجتمعات.
ولكن و»للأسف هناك الكثير من الأعمال الروائية في المنطقة بحاجة إلى إعادة صياغتها لغويًا، فليس لها اهتمام باللغة ولا بالأساليب التي ينبغي أن تتبع في الكتابة الروائية، وهذا ما جعل بعض النصوص الروائية نصوص سوق استهلاكية لأنها تفقد البناء الفني والجمالي واللغوي»(5) فإن أي تدهور فردي أو مجتمعي يسبقه تدهور لغوي.
1 - مي السادة، «السرد العجائبي في الرواية الخليجية»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 2014.
2 - سيغموند فرويد، «مختصر التحليل النفسي»، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 1986.
3 - انظر ألان روب جرييه، «نحو رواية جديدة»، دار المعارف، مصر.
4 - فهد حسين، «مرجعيات ثقافية في الرواية الخليجية»، بيت الغشام للطباعة والنشر، ط1، 2016 ص175.
5 - المرجع السابق.
رسول درويش
جريدة الوسط البحرينية