إن وظيفة الفكر والأدب والإبداع بصفة عامة، هي التعبير عن قضايا وتحوّلات المجتمع في جميع اتجاهاته، والرواية نسقية عبرت الجهل ونهضت ببناء الشخصيّة والمجتمع، و إن أقسى الهزّات الأرضيّة لا تعادل قسوة هزّة ثقة طفل في العالم حوله.
“وفي هذه الرواية التي تحوي من الفصول ثمانية، عززتها فكرة مشهد التقطته ذاكرة الطفل علي، عندما كان في الكتّاب بحضرة جدّه، وهو حضور رجل (السيّد) كما ناداه الجد، بلباس عمله كعامل نظافة، لأخذ استشارة معلم القرآن بشأن ابنه الذي أسماه علي (السيد الصغير) تيمنّا بجده. شكّلت هيئة الطفل صدمة لعلي بثوبه الرث، المرقّع، بلا أزرار، فنظر إلى حاله وهو ليس أفضل منه بمراحل كثيرة، لكنه أفضل حالا، ما جعل هذا المشهد يحفر في جدار قلب علي، ربما لصدق الوجدان الشعوري لدى الطفل علق هذا المشهد لكل سنوات عمره المقبلة، فنشأ علي في بيئته تلك القرية الغافية على شاطئ البحر، يرسم لوحة من الواقع على جدار متشعب بالملح، محاولا طيلة مراحل نشأته أن يطوّر نفسه ويتمسك بالقيم التي تربّى عليها ليحدث فرقًا في واقعه”.
وهذا الطرح السردي بني على ثنائية قد تبدو اعتيادية بين النور والظل، لكن الغرابة كانت بين طرفي المألوف والمنطق، في هذا السياق مشوبة بالحزن تارة ومثقلة بهموم المستقبل، فالجدار الذي شكل الجزء الأول من العنوان لم يكن جدار الملح بمفهومه البسيط بينما عبّر عن جدار وهمي يفصل بين الوعي واللاوعي، من تاريخ حوادث مختلفة عاصرها علي ونحتها على هذا الجدار، حتى قال عنه عندما كبر: ليتني وضعت تحت الرسوم التي خطّها قلمي تاريخا، فكانت تستند على مماثلة منطقية، أطرافها رموز المجتمع، (الصياد العجوز الضخم، الأم ، الأخت، العم، الأخوة، الأصدقاء) بمعنى ما هو استطيقي وانفعالي، ووجه الشّبه بينهم، ليظل المشهد المصور في ذاكرة علي فيه بقية باقية من الجمال، يشق طريقه للمستقبل، رغم ثقل ما احتواه.
إن علاقة الرواية بالمطابقة التماثلية، مثلت جزءا من الحقيقة، التي عاشها المجتمع البحريني وهو جزء من مجتمع خليجي نشأت فيه الأجيال الحالية محافظة بين قيم الدين وعادات المجتمع القيمية، صوّر لنا الكاتب نماذج عديدة من وجهة نظر علي البطل الذي سرد مسيرته التعليمية والحياتية والتي مثلت أنموذج للشاب الملتزم الذي حافظ على ثباته الأخلاقي في حين كانت التغييرات في أوجها بالنسبة للسياسة والمجتمع ومحاربة أفكار غريبة لم تكن تخص مجتمعاتنا العربية عامة والخليجية خاصة، كان وحيدا بمعنى الثقة وإن لم يكن منعزلا تماما، الفرق بينه وبين الحوادث في الرواية، ليس من خلال التثبت من صحة الحدث، أو نفيه، بينما لا نستطيع الوصول إليه إلا من خلال النّص، بل هو أكثر تشويقا من الحوادث الحقيقية، وهو ما تشكله الإضافة الجمالية كقيمة مميزة تمنح الرواية وجودها، في حين كان الشباب من أقرانه يتوجهون للانغماس في الممنوعات والوقوع في المحظورات.
عبر انزياحات أسلوبية تخللتها لغة سلسة رشيقة ولدت من رحم بيئتها بكل بساطتها ورزانتها، شكّلت الرواية سردًا شيّقًا قافزًا على ما وراء السرد بما وراء الحكاية.
لامسنا الأخطار التي أحاطت بالقرية، وأهمها الكوليرا كوباء وعدوى الانتشار، والجهل الأشد خطرًا منه. كان دور المرأة ظاهرًا من خلال الأم بمشاعر الخوف والحرص على أبنائها وهو الدور الذي مارسته الأم بكل حب ونجاح.
انتقل في فصولها الثاني والثالث والرابع إلى تشكل شخصيّة علي ذي البنية الصغيرة وقد أشار إدلر إلى أن خطة الحياة عند الإنسان تبدأ منذ السنوات الأولى في البحث عن إرادة القوة التي تحدد السلوك لدى الفرد، مرورًا بالالتزام الأخلاقي حسب البيئة التي عايشها، وفكره البسيط الذي كلّما شابته شائبة راح يحفر في الملح العالق عبر الجدار. وفي نظر علم النفس الفردي هناك ثلاثة ميادين يجب أن يتكيف الفرد معها تكيفًا ناجحًا حتى يوفق في حياته، هي (المجتمع والعمل والحب) لذلك يكون التركيز على الميادين الثلاثة في المجتمع عند الطفل وتربيته في العائلة بين الإخوة والأخوات، وطريقة معاملته من قبل الأم والأب وكذلك مع أطفال الحي والمدرسة، وقد توفّرت هذه العناصر مجتمعة لتشكل شخصية علي السويّة التي تحولت فيما بعد لفنان تشكيلي، بينما عرض لنا نماذج من الأصدقاء الأقل حظوة بالأخلاق من خلال علاقاتهم الغرامية وربما وقوعهم في محاذير تخص المواد المخدرة، وقد أنهى دراسته الجامعية ينتهج الحيادية التي ركّزت على العلم بديلًا عن التجمعات التي سلكها البعض للانخراط في قوميات أخرى، وأيدولوجيات لا تشبه مجتمعه (كتلك الشعارات التي تمثلها بعض الطلاب بدر وجماعته) ثم إصراره استقلاليته عن أي تيار وابتعاده عن أي فكر دخيل على واقعنا العربي، والتركيز على هدفه في الوصول رغم وعورة الطريق وثقل همّ النهضة بقريته لتواكب الحضارة، بصبر واجتهاد تؤججه عزة وكرامة ليكون عضوًا مؤثرًا في المجتمع.
أما الميدان الثالث ( الحب/ الانفعال) وهنا نسأل هل وفّق علي في هذا الميدان؟
فنراه يعجب بابنة جيرانهم زينب تلك الفتاة الجميلة الخجولة، ويتعلق بها فترة ما قبل الجامعة، وعندما عرف نورة في الجامعة شك في حبه لزينب، فوقع في حيرة حب الفتاة المنفتحة وابنة بيئته زينب التي كان يحبها لذاتها وبساطتها، وقد ختم الرواية بنيته الذهاب في المساء لخطبة زينب التي كانت رمزًا للوفاء وللمرأة التي مثلت في عينه كل نساء العالم، وإهدائها أجمل لوحاته.
أختم بالقول إن رواية “جدار الملح” أرّخت ملامح الشخصية البحرينية الأمثل، رغم الظروف الصعبة التي عايشتها، عبر قصة شاب جدير بأن يحتذى به، فهو مثل لكثير من الشباب ومن هنا تستمد قيمتها، وهذا الجدار الملحي هو جزء كبير من حاضره، وتحوله إلى لوحة رائعة رفض بيعها لأنها لا تقدر بثمن، فهي ليست لوحة عادية، إنها تاريخه وعمره الذي لا يقايض ، إن ما يسند تجربة الإبداع العربي (الخليجي) على الرغم من الشروط القاسية المصاحبة له، هو ما تعيشه المجتمعات من تحولات متلاحقة، داخل عالم متغير بإيقاع سريع، وإقبالها على استكشاف حياة الأزمنة الحديثة وما تنطوي عليه من إمكانات العلم والعقل، فيزيد ذلك من إصرارها على مقاومة الجمود و الماضوية ليقف الابداع إلى جانب الانفتاح بوصفه تأملًا في الحياة، واستنهاضًا للتحدي والمواجهة مع الحفاظ على القيم، ليسهم في صناعة غاية من غايات الأدب.
ريما آل كلِّزلي