رغم أني أعلم ان المثقف الموهوب لا يعجزه شيء، فتراه يخلق مواضيعه الجميلة المتميزة وينشرها باستمرار في الصحف والمجلات ليستفيد منها القراء ويستمتعوا بها، وأنا كنت أفعل ذلك بصورة دائمة منذ سنوات عديدة بلا انقطاع، فإني أصبت منذ الشهور القليلة الماضية بنوع من التوقف المميت بصورة مباغتة لا أدري ما سببه المحزن على نفسيتي.. وأصبحت كالعاجز أو المشلول الذي لا يقوى على رفع أقل حمل وتحريك أخف وزن.. هل هو التقدم في العمر وما يرافقه من إحباط وعجز.. أم تراه هو حالة الصمت التي أصابت الكثير من المثقفين من هول التمزق الذي شرخ الوطن من جراء العداء الطائفي والتعصب المذهبي والصراع على السلطة ليس من أجل الشعب ولكن للفئة أو الطائفة أو المذهب؟
إن لسان المثقف أصابه الخرس والصمت الرهيب من الأحداث المؤلمة التي جلبت الدمار والتخلف للوطن.. إلا أن الأمل الوهاج قد أعاد في الروح المشتاقة للكتابة.. فمنذ بداية العام وفعاليات البحرين عاصمة للثقافة العربية للعام الحالي ٢٠١٢ العديدة التي زخرت بنشاطات ثقافية وفنية متميزة ألهبت شعور ووجدان المتابعين لهذه الفعاليات والإضافات الفكرية والثقافية الرائعة التي نورت عقولنا.. هي التي جعلتني أعيش حالة من السلام النفسي رغم الخوف والألم من المجهول المتخفي خلف الأفق والاستار من استمرار المواجهات الأمنية والتخريبات والحرق ورمي القنايل المميتة.. وهذا العمل الثقافي الخارق للمنامة عاصمة الثقافة ٢٠١٢ لا شك انه يعود إلى جهود الشيخة مي بنت محمد ال خليفة وزيرة الثقافة وفريق العمل الخاص معها. وكنت أتمنى لو استطعت أن اغطي جانبا من تلك الانشطة والبرامج التي اقيمت في شهري يناير وفبراير ليطلع الجمهور عليها وتعطيه دافعا وحماسا لمتابعتها بالحضور والوجود.. إلا أن حالة العجز عن الكتابة التي تطرقت اليها في البداية هي التي حالت دون ذلك.. ولكن إحدى المحاضرات الثقافية المؤثرة التي أقيمت في جمعية تاريخ وآثار البحرين كان لها وقعٌ كبير على نفسيتي اليائسة وحركت كياني ووثبت جوارحي للكتابة عنها.. إنها محاضرة الشاعر والاديب المعروف الدكتور راشد نجم وقد تناول في محاضرته الهادفة تجربته في الحياة مدة أربعين عاما.. منذ فترة طفولته في حي «القمرة» بالمحرق في بداية الخمسينيات ومروراً بالمراحل الدراسية المختلفة التي احتضنته عدة مدارس في المحرق وبعدها المرحلة الثانوية في القسم التجاري بمدرسة المنامة الثانوية.. التي كانت رغبة والده في دخول القسم التجاري الذي لم يكن يميل إليه مما اضطره إلى أن يدرس المنهج الأدبي الذي يعشقه عن طريق المنازل بعد عدة سنوات من تخرجه وعمله في وزارة التربية والتعليم.
حدثنا الدكتور راشد نجم عن حبه وولعه المرهفين للكتب منذ نعومة أظفاره، وكيف كان يعتني بها ويقوم بشرائها من المصروف البسيط الذي كان يحصل عليه من والده من بيع الحليب الطازج الذي ينتجونه من الأبقار التي يربيها والده بالمنزل. وكان حبه الشديد للكتب قد أخذه معه حتى إلى المدرسة، فحدثنا عن تجربة مثيرة في مجال تنسيق وإعارة الكتب عندما كلفه الاستاذ الشهير عبدالرحيم روزبة رحمه الله تعالى في تلك السنين الفائتة من عهد الستينيات القديمة بأن يتولى ترتيب مجموعة من الكتب الموجودة في الصف ويكون مسئولا عنها واعارتها إلى الطلبة.. فدعته تلك التجربة إلى أن يقوم بعمل نظام خاص بتسجيل وإعارة الكتب، مما هيأت له هذه التجربة أن يعمل في مجال المكتبات العامة بوزارة التربية والتعليم بالقضيبية واستطاع من خلال هذا العمل مع الكتب أن يشق طريقه في الحياة والانطلاق ليس فقط من جانب النهل من العلوم والمعارف والاداب والشعر والفكر وكل مناحي المعرفة، بل ايضا أوصله العمل في مجال المكتبات العامة إلى أن يحقق طموحه الجامعي بنيله الشهادات العليا بعد الثانوية العامة، فاستطاع الحصول على الليسانس في الآداب.. كما اتيحت له الدراسة الجامعية في دول عربية متعددة منها جامعات بغداد ولبنان والقاهرة وبعد ذلك اتيحت له فرصة الحصول على الماجستير من بريطانيا واخيرا درس في كندا التي منحته درجة الدكتوراه من جامعتها العريقة «مكجيل».
تطرق ايضا الشاعر راشد نجم إلى تجربته مع الشعر وخاصة الشعر الغنائي وكيف كان تأثير الفرق الشعبية العديدة المحاطة بمنزلهم في تشكيل ذائقته الشعرية وحسه الغنائي الشعبي.. مما حدا به إلى تأليف مجموعة كبيرة جدا من القصائد التي تغنى بها كل المطربين البحرينيين اللامعين في فترة السبعينيات من أمثال جعفر حبيب واحمد الجميري وابراهيم حبيب ومحمد علي عبدالله ويعقوب بومطيع والكثيرين جدا مما لا يسمح المجال لذكرهم جميعهم.. بالإضافة إلى إصداره عدة دواوين شعرية وكتب ودراسات أثرت المكتبات البحرينية بمواضيعها الجادة المهمة. وتناول الدكتور راشد نجم في محاضرته الممتعة الزاخرة بالمعلومات التاريخية المهمة نشاطاته الوفيرة جدا في مجال تأسيس الجمعيات الثقافية والأهلية وكان له السبق في تأسيس العديد من الجمعيات عند إنشائها في مهدها مثل أسرة الأدباء والكتاب في عام ١٩٦٩ والملتقى الثقافي الاهلي في عام ١٩٩٦ وكان من ضمن أعضاء الهيئة الادارية لهما.. وعرض بعد ذلك صور تاريخية مهمة له في مراحل متعددة من حياته وأماكن دراساته الجامعية وجولاته وانشطته في كثير من المحافل والاماكن والدول العديدة.
لقد كانت تجربة الاستاذ راشد نجم تجربة عظيمة في معنى الكفاح والإصرار من حياة البساطة والفقر والجهل إلى حياة مليئة بالعزيمة والطموح والنجاح الباهر عبر تتويجه في مناصب مرموقة وحصوله على أرقى وأعلى الشهادات الجامعية في العالم.. ومع كل هذه التجربة الغنية والباهرة للدكتور راشد نجم التي تستحق أن توثق في كتاب وتدرس للأجيال حتى يسيروا على هذا النهج الراقي الدؤوب في معاني العزيمة والإرادة والتفوق التي حقيقة رغم معرفتي بالدكتور راشد شخصيا منذ سنوات عديدة من خلال الانشطة الثقافية التي احضرها معه، فاني كنت أجهل هذا التاريخ الكبير المشرف له.. ورغم متعة تلك المحاضرة وكشف الكثير من حياة وأسرار ومحطات الاستاذ راشد نجم التي يصعب نقلها جميعا في هذا الموضوع المختصر.. فان الاستاذ راشد نجم فاجأ الجميع بحس انساني رفيع المعاني لم نتوقعه، عندما عرض في ختام المحاضرة صورة زوجته المرحومة منذ عدة سنوات مضت وهو واقف بجانبها في تلك الصورة الحزينة وبدموع قاسية حاول بكل قوته تداركها وبصوت مذبوح متحشرج.. قال كلمات بالغة الأثر في حق زوجته الوفية التي كانت خير معين ورفيق ل«مشوار» دربه الطويل.. الا أن عمرها المكتوب لم يمهلها لترى زوجها وهو يتوج بالدكتوراه وبقية النجاحات التي تمت له بفضلها.. وكانت بتلك الكلمات الخاتمة الدامعة عن زوجته المرحومة أصدق معاني الانسانية النبيلة في تذكر من لهم الفضل والأمل والاستمرار في حياتنا.. فكانت تلك لمسة وفاء لا تنسى أبداً من الاستاذ راشد نجم.. ادمعت أعيننا معها.