قبل أكثر من 30 عاماً، وفي عدد مجلة «كلمات» التي تصدر عن أسرة الأدباء والكتَّاب في البحرين، وتحديداً في عددها السابع العام 1986، تصدَّى القاص والروائي والسيناريست البحريني أمين صالح لترجمة محاضرة ألقاها المخرج والسينمائي الإسباني - المكسيكي لويس بونويل في العام 1954، نشرت تحت عنوان «بونويل... الذاكرة البصرية».
بونويل المولود في 22 فبراير شباط 1900، والمتوفى في 29 يوليو تموز 1983، يعد واحداً من الأعمدة في تاريخ السينما العالمية، حصل على الجنسية المكسيكية، وتعدَّدت أماكن اشتغاله في الفن السابع في دول مثل: إسبانيا، المكسيك، فرنسا والولايات المتحدة.
تلقى تعليماً في الفلسفة والأدب، وذلك ما أهله للخروج على العالم بأعمال غاية في العمق والقيمة، كما قُدِّر له أن يكون معاصراً لثلاثة من كبار رجالات الثقافة في العالم: فدريكو جارسيا لوركا، وسلفادور دالي، والناقد مورينو فيلا، الذين كانوا زملاء له في الدراسة الجامعية.
في ثنايا الترجمة يمكن القول إنها سيرة ذاتية لدارس الحشرات الذي أصبح واحداً من أهم المخرجين في تاريخ السينما العالمية.
بدأ صالح «بونويل... الذاكرة البصرية» بتقديم نبذة عن المخرج العالمي تضمّنت جانباً من سيرته الذاتية، تبعها بفيلموغرافيا؛ بحسب الترتيب الزمني.
محاضرة بونويل كانت تقديماً لنفسه ولأعماله، هي سيرة ذاتية كذلك، ولكنها وجهاً لوجه أمام جمهور أتى للاستماع إليه. يأخذ بونويل بالترتيب الزمني في سرد السيرة، لكنه سرعان ما يأخذ مستمعه إلى فترات تبدو غير ذات اتصال، أو متباعدة؛ لكن التمعن فيها يقود إلى مؤديات ذلك القفز، واضعاً الجمهور في صورة بانورامية لتلك الحياة التي كانت حائرة بداية أمرها، مروراً بالنماذج التي قادته لاختيار توجهه في الحياة والفن، يقول عن البدايات تلك: «أمضى أبي كل حياته تقريباً في أميركا، حيث نجح كتاجر في جمع شيء من الثروة. في الأربعين من عمره قرر أن يعود إلى بلدته الأصلية، كالاندا، وهناك تزوّج المرأة التي أنجبتني والتي كانت بالكاد في السابعة عشرة. نتج عن هذا الزواج سبعة أبناء، كنت أولهم، وجميعهم يعيشون الآن في إسبانيا».
صليبي في عاصمة حديثة:
تأخذنا السيرة إلى تشكُّل الوعي الأول، والمفارقة بين مجتمع الريف، أو الضواحي، ومجتمع المدينة، وأثر ذلك في الوقت نفسه على الأخذ بالوعي والمدراك والخيارات إلى آفاق ارحب وأوسع، ينتج عنها قدرة بعد سنوات على صنع الأثر والتغيير، والمدهش في عالم وصناعة سيكون واحداً من أعمدتها البارزة والملفتة. «سنواتي الثمانية كطالب مع القساوسة اليسوعيين، غذّت ونمَّت هاتين النزعتين بدلاً من تقليصهما. وحتى حصولي على البكالوريا في السادسة عشرة من عمري، لم أكن أعتبر نفسي فرداً منتمياً إلى المجتمع الحديث. ذهبت إلى مدريد للدراسة: كان الانتقال من الإقليم إلى العاصمة مذهلاً بالدرجة نفسها التي يشعر بها صليبي وجد نفسه فجأة في الشارع الخامس في نيويورك».
عن طبيعة التقسيمات الطبقية والمجتمعية وقتها يتحدث بونويل. عن الخيارات التي لا يجد الأرستقراطيون أنفسهم بعيداً عنها. عن المهنة التي توفر له مكانة في أوساط لا تختلف عن بقية المجتمعات في العالم، في تأثرها بالمظهرية، وما يبدو علامات بارزة توجد طرق فرزها وتصنيفها في المجتمعات، من بين ذلك التعليم وتوجهاته وتخصصاته.
«في 1917، وجدت نفسي مستقراً في مدريد، مقيماً في سكن الطلبة. الملفت للنظر أن مهنة مهندس زراعي في إسبانيا هي الأكثر صعوبة، ومع ذلك يسعى إليها الشاب لأنها مهنة مشرِّفة جداً... أرستقراطية جداً، طموح الشاب الإسباني - الأرستقراطي - أن يصبح مهندساً أو دبلوماسياً، وهذه الدراسة كانت تقتضي ذكاء ومورداً مالياً كافياً بسبب التكاليف الباهظة بالقياس إلى أسلوب الحياة البسيطة والمتواضعة».
الهندسة الزراعية... علم الحشرات:
تلقى بونويل جانباً من تعليمه في الفلسفة أيضاً، ولنتصوَّر الأثر الذي يمكن أن تحدثه في طريقة تفكير أي منا، ولن يكون الفن، والسابع منه خصوصاً بمعزل عن ذلك الحقل العميق والثري، الذي تسرَّب كثير منه إلى عديد الأعمال التي أنجزها، منذ بدايات اشتغاله. عن الانتقال بين المعارف والتخصصات، من الهندسة الزراعية، مروراً بعلم الحشرات وتشريحها، مرَّ بونويل، وأخذ منها جميعاً لكنه لم يكن يجد نفسه في تلك الحقول والعلوم، وهو ما حدا به إلى أن يطلق على ذلك الوضع فترة تلقيه التعليم، بـ «العبثي والسخيف». تحدث في السيرة أمام الجمهور أيضاً عن التخصص الذي وجد نفسه فيه نزولاً ومسايرة لمتطلبات المجتمع أو الفئات التي يريد أن يكون من ضمنها «في مجال الهندسة الزراعية كان هناك وضع عبثي وسخيف، إذ من الضروري أن يدرس المرء الرياضيات لعدة سنوات. هكذا درست الرياضيات لمدة ثلاث سنوات، وبذلك نجحوا في جعلي أكره الدراسة».
وعن فترة تلقيه تعليماً في علم الحشرات قال: «عندئذ، قررت أن أتحرك بحسب مشيئتي، وأن أفعل بناء على رغبتي الذاتية، لذلك قررت في 1920، ومن غير أن أنتظر إذناً من والدي، أن أدرس الحشرات على يد عالم الحشرات الإسباني، مدير متحف التاريخ الطبيعي في مدريد بوليفار، على رغم أن الدراسة لا تخوّل المرء لتحقيق مكاسب مادية بعد التخرج».
مضيفاً في هذا الشأن «كرست نفسي للحشرات لأكثر من عام ثم توصلت إلى نتيجة بأنني كنت مهتماً بحياة أو أدب الحشرات أكثر من التشريح والتصنيف والوظائف الفسيولوجية».
السريالية: الإنسان ليس حراً
تشير الترجمة إلى الصداقات التي كونها بونويل في سكن الطلبة مع مجموعة من الفنانين الشباب، والذين سيكون لبعضهم تأثير وحضور بارز مستقبلاً، وكان لهم دور في تشكيل ميوله واتجاهاته، من بينهم الشاعر لوركا، والرسام دالي، والشاعر والناقد فيلا.
وعودة إلى الفلسفة يوضح بونويل بأن ميوله الأدبية جعلته يدرك بأن هدفه كان الفن والأدب وليس العلوم الطبيعية «فقد كنت أفضّل المناقشات مع الأصدقاء في المقهى على الجلوس أمام طاولة والتحديق عبر الميكروسكوب؛ لذلك غيّرت مجالي مرة أخرى، وبدأت أدرس الفلسفة والأدب، وتخرجت من جامعة مدريد العام 1928».
كانت باريس في مخيلة الشاب ملحة وغالبة، وهي ما جعلته ملحاحاً وخصوصاً بعد أن أنهى دراسته الجامعية. كان كثير القلق والتوتر، وما كان لكل ذلك أن يتبدَّد لولا موافقة أمه على سفره على باريس؛ إذ كان والده قد مات قبل عام.
تحدث في السيرة عن تأثره بالسريالية، وما حققته له من قفزات وتحولات، سواء على مستوى اشتغاله المستقبلي في السينما، أو حتى طريقة تفكيره، وتعاطيه مع القضايا والمفاهيم من حوله. تحدث أيضاً عن المغزى الأخلاقي للحياة، وارتباط ذلك بالسريالية، في إشارته إلى أن السريالية «علَّمتني أن للحياة مغزى أخلاقياً لا يمكن تجاهله. عبْر السريالية اكتشفت أيضاً، وللمرة الأولى، بأن الإنسان ليس حراً. كنت أعتقد بأن حريتنا مطلقة، لكنني وجدت في السريالية نظاماً ينبغي أن يُتبع. ذلك كان أحد الدروس العظيمة التي تعلّمتها في حياتي. خطوة مدهشة وشعرية».
يرى بونويل أن التجربة السريالية بالنسبة له تعني شيئاً واحداً: التضامن الجماعي. ويتذكَّر هنا أندريه بريتون «الذي كان يجمعنا ويدعونا لإجراء محاكمة عقلية إذا نحن انحرفنا عن أخلاقية الجماعة». تعلّم آنذاك، أن الحرية لا تعني أن تفعل ما تشاء «بل أن تعمل بالتضامن مع الأصدقاء الذين تحبهم وتحترمهم»، موضحاً بأن اختيار أي منا أخلاقية معيّنة، فإننا في الواقع لا نكون أحراراً إطلاقاً، ولهذا يشير إلى المتعاطفين سراً مع الفاشيين؛ حيث يرى أنهم وحدهم الذين يتظاهرون بأنهم أحرار أيديولوجياً.
الاحتفاظ بالصور التي لا تُفسَّر:
وعن ذكرياته وعلاقته بالفنان العالمي سلفادور دالي، يحيل جمهوره إلى الفترة التي عملا فيها معاً على سيناريو «كلب أندلسي»، والقاعدة الوحيدة التي أخذا بها: «أن نحتفظ فقط بالصور التي لا نستطيع تفسيرها عقلانياً».
وللتفصيل في هذه التجربة لابد من إيراد اقتباس ترجمة صالح هنا «بدأت الفكرة بحلمين توأمين لي ولدالي. هو حلم بشكل استحواذي، بنمل يدبّ في راحة يد. أنا حلمت بمقلة عين تُشق. قمنا بتوحيد الصور، وحذف تلك التي تحمل دلالة سياسية أو تاريخية أو جمالية أو أخلاقية. النقاد اخترعوا ألف تأويل للصور، كلب أندلسي، في الواقع، كان تحذيراً يائساً، استرعاء للانتباه نحو العنف والجريمة».
الفيلم يعتبر علامة بارزة في حقبة الأفلام الصامتة ولا تتجاوز مدته 16 دقيقة، وأنتج في العام 1928، ويُعدُّ من الأفلام الأكثر شهرة بين الأعمال السريالية في عشرينيات القرن الماضي.
ويقدِّم بونويل رؤية تاريخية للفيلم، ارتباطاً بالزمن الذي أنجز فيه، إذ يشير إلى أنه يمثّل «رد فعل عنيفاً ضد ما كان يُدعى آنذاك بـ (السينما الطليعية)، التي كانت موجّهة - بشكل خاص - نحو الحساسية الفنية، وإلى عقل المتفرّج بتلاعبها بالضوء والظل والمؤثرات الضوئية، وبانشغالها التام بالمونتاج الإيقاعي والبحث التقني، وأحياناً كانت تنزع إلى عرض حالة معقولة وتقليدية تماماً».
تناول بونويل في محاضرته ظروف ما بعد تحقيقه فيلم «أرض بلا خبز»، حيث شعر بعدم رغبته في صنع أفلام، مشيراً إلى أنه بفضل عائلته، كان لديه ما يكفي ليعيش «لكنني كنت أشعر بالخجل بسبب وضعي كعاطل؛ لذا عملت لمدة سنتين مع شركة بارامونت في باريس، في قسم الدبلجة، ثم مع شركة وارنر التي أرسلتني إلى إسبانيا للإشراف على أعمالها ذات الإنتاج المشترك». وعن فترة الحرب الأهلية الإسبانية قال: «ظننت بأن ذلك يعني نهاية العالم، وأنه يتعيَّن عليَّ أن أجد شيئاً أفضل أفعله بدلاً من صنع الأفلام»، وعرَّج في تناول غير متناسق زمنياً عن فترة عمله في متحف الفن الحديث، مشيراً إلى أنه طُلب منه أن يعيد مونتاج أشرطة وثائقية حققتها المخرجة الألمانية ليني ريفنستال عن اجتماعات النازيين في نورمبرغ. الغرض كان استغلال هذه الأشرطة، بشكل محرّف، كدعاية مضادة للنازية. بعد أن انتهيت من ذلك، عرضت الأشرطة على رينيه كلير (مخرج فرنسي) وشارلي شابلن. شابلن استغرق في الضحك مشيراً إلى هتلر وقال بأن الفوهرر هو محاكاة رديئة لشارلو (...)».
من بين ما قاله:
«أكره صنع الأفلام. أكره التشوش والفوضى والضجيج في الموقع أثناء التصوير. لا أستطيع أن أحتمل وجود أشخاص يتحدثون إليَّ في الوقت نفسه. أكره إصدار الأوامر».
«بالنسبة لي، يجب أن يكون الفيلم مسلياً ومضحكاً. إذا لم يضحك الجمهور فهذا يعني أن الفيلم ردئ. ما أقدمه من دعابات وتخيّلات وهمسات، لا ينبغي أن تُؤخذ بجدّية. أنا لا أسعى إلى تقديم رموز. ذاكرتي، مثل حبلي، بصرية. لكن أفلامي بالتأكيد، مثل الحياة... يمكن أن تكون غامضة أو متنافرة».
«السينما شيء مزعج وبغيض... لصانعي الأفلام والجمهور معاً».
«الكاميرا هي عين المدهش. حين ترى عين السينما، بشكل حقيقي، يشتعل العالم بأكمله».
«التكنيك لا يسبّب لي مشاكل أو صعوبات. أنا أمقت الزوايا غير العادية في التصوير. أحياناً أهيِّئ مع مصوّري لقطة ذكية بشكل رائع وجميل، ثم فجأة ننفجر في الضحك، ونتخلّى عن اللقطة لنصوّر بشكل مباشر، وبدون المؤثرات التقنية للكاميرا».
«ما هو مُضجر بشأن الممثلين، أن لهم وجوه ممثلين».
«العديد من الممثلين ماتوا - قبل الأوان - بعد عملهم معي مباشرة. سيمون ميرو، التي ظهرت في فيلمي (كلب أندلسي)، استحمّت بالبنزين ثم مضت إلى الحديقة العامة، أضرمت النار في نفسها، ورقصت لبرهة بينما اللهب يفترس جسمها. الممثل، في الفيلم نفسه، بيير بالتشيف، انتحر. جيرار فيليب مات بعد شهور قليلة من ظهوره في آخر أفلامه معي. في فيلم (حياة أرشيبالدو الإجرامية) ثمة مشهد يحترق فيه التمثال الشمعي لبطلة الفيلم ميرو سلافا. قبل افتتاح الفيلم بيوم أحرقت الممثلة نفسها».
من أفلام لويس بونويل:
«كلب أندلسي»، (1929)، وأنجزه بالاشتراك مع الفنان سلفادور دالي، «العصر الذهبي» (1920)، بدأ كتابته مع دالي، وأنهاه بمفرد، «أرض بلا خبز» وهو فيلم تسجيلي أنجزه في العام 1932، مع الإشارة هنا إلى أنه استطاع تصويره بفضل ورقة يانصيب رابحة، وقد أحدث الفيلم هيجاناً وسخطاً في أوساط اليمين الإسباني وانتهى به المطاف إلى منع عرضه في البلاد، «الكازينو الكبير»، (1947)، «الفاسق الكبير» (1949)، «المنسيون»، (1950)، وحصل على جائزة أفضل إخراج، وجائزة الفيبريسي بمهرجان كان السينمائي العام 1951، «امرأة بلا حب... عندما يحاكمنا الأبناء»، (1951)، «صعوداً للسماء»، (1952)، وحصل على جائزة النقد كأفضل فيلم طليعي بمهرجان كان السينمائي العام 1952، «المتوحش»، (1952)، «روبينسون كروزو»، (1952)، «هو»، (1953)، «الوهم يسافر بعربة ترام»، (1953)، «هاوية العاطفة... مرتفعات خطرة»، (1954)، «النهر والموت»، (1954)، «بروفة جريمة»، (1955)، «الموت في الحديقة»، (1956)، «نازارين»، (1958)، وحصل على الجائزة الكبرى بمهرجان كان السينمائي، «وصلت الحمى إلى الباو» (1959)، «الفتاة» (1960)، «فيريديانا» (1961)، وحصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، «الملاك المدمر»، (1962)، «يوميات خادمة» (1964)، «سمعان العمودي»، (1965)، وحصل على جائزة الأسد الفضي بفينيسيا، «حسناء النهار»، (1967)، وحصل على جائزة الأسد الذهبي بفينيسا، «درب التبان»، (1969)، «تريستانا»، (1970)، «سحر البورجوازية الخفي، (1972)، وحصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، «شبح الحرية» (1974)، «هذا الشيء الغامض للرغبة» (1977)، وغيرها من الأفلام.