ربما كانت قصيدة النثر العربية، بقدرتها على الاستفادة من تراثها من الشعر العمودي، ومن شعر التفعيلة، في إطار نص حر وجامع، هي القصيدة الناطقة الآن، وذلك بعد أن اختفى شاعر الرسالة، والنبوءة، وصمت شاعر المنبر؛ وغاب شاعر البلاط، والمناسبة، إن قصيدة النثر باستيعابها الواعي لتراثها الشعري العربي الطويل، ولتراثها الشعري العالمي المختلف، هذا الممتد المتعدد الآن على جسد العالم، هي القصيدة المؤثرة في المشهد الشعري العربي الآن. وهذا توصيف لواقع وليس حكماً عليه أو تقويماً له، وربما كان هذا سبباً من أسباب هذا الهجوم الدائم عليها، فهذا الإسراف دليل في الحقيقة على عجزٍ ما عن المواجهة، وبل هو دليل على النكول، وأصبح حديثاً معاداً في غير طائل، وقد صدق مارون عبود حين قال "لو نظمت الكلاب والقطط يوماً باللغة العربية لعلمت منها أنها تفهم أيضاً كما يفهم شعراؤنا أن الورد أحمر... إلخ. وربما زادت على شعرائنا بفهم ما لا يفهمونه".
ذلك ما يذكره د.علاء عبدالهادي في كتابه "قصيدة النثر والتفات النوع" دراسة في النوع الشعري -الصادر في طبعته الثانية عن دار أفكار للدراسة والنشر، بالتعاون مع أسرة الأدباء والكتاب- حيث يعالج الكتاب قصيدة النثر و"التفات النوع"، وذلك من خلال رؤية، تحرت أن تتجاوز على نحو منهجي مع عدد مختار من قوالب شفهية سائدة، محملة بأحكام نقدية على الشعر بعامة، وعلى قصيدة النثر العربية المعاصرة بخاصة، بهدف إقامة حوار نقدي، من خلال إطار موضوعي واحد، هو إطار قصيدة النثر بتراثيها العظيمين في مدونة الشعر العربي، تراث الشعر العمودي، وتراث الشعر التفعيلي.
وقامت هذه الدراسة على ثلاثة فصول، عالج الأول علاقة الشعر بالنثر، على الجانبين المفهومي، والتاريخي، كما تناول مفهوم الإيقاع في الشعر بعامة، وفي قصيدة النثر بخاصة. وقام الفصل الثاني بدراسة العلاقة بين الشعر والسرد، وذلك من خلال استثمار مصطلح "الالتفات" البلاغي العربي القديم على مستوى كلي "macro"، فيما أسماه المؤلف الالتفات النوعي، هذا فضلاً عن دراسة ما يسمى النص التشعبي بصفته التفاتا، وإعادة تعريفه بناء على هذا المفهوم، وعالج الفصل الثالث علاقة الشعر بالمعنى، وقد قدم مصطلحاً جديداً هو "المعنى الشعري" الذي أوضح د. عبدالهادي أنه يمكنه أن يكون مشيراً إلى النوع الشعري، ثم عالج المؤلف في نهاية العمل الكتابة الشعرية بصفتها لعباً؛ قد تبدو هذه العلاقات مراوغة بعض الشيء، وذلك لأن طريق الحجاج غير المباشر، يكون أقصر أحياناً من طريقة المستقيم.
جعفر الديري