جاءت عتبة عنوان رواية «اسمه بدر» للروائية فرحة مُستلَّة من اسم الشخصية المحورية التي دار حولها السرد، وقد استهلتها بإهداء: (إلى الجسد الذي انتزعت منه لأتشكَّل: ضُمَّني إليك، قوِّم اعوجاج أضلعي فيك)، وهي تشير إلى سردية جدلية أن (حواء) خلقت من ضلعه الأعوج، ولو تأملنا قليلاً سنجد أن الروائية تخاطب الجسد الذي تشكَّلت منه؛ ليقوم اعوجاج أضلعها، والاعوجاج ربما يفسر بالنقص في العقل، أو ضعف الخلقة، أو زيادة العاطفة، فهل الروائية تؤمن بذلك؟ أجزم بلا، فما جاء في طيات الروائية على لسان شخصياتها النسائية القوية يؤشر إلى تمرُّدها، واكتمال نضجها الفكري والعاطفي، وبذلك يمكن تفسير الإهداء أنه كناية عن رغبتها في التحرر من قيود الأنثوية الهزيلة الخاضعة لقوانين الرجل.
اعتمدت الكاتبة على تقنية السؤال القصير جدا والمشوق، مع إجابة قصيرة تتسم بالغموض في أول جملة استهلت بها روايتها «كيف قُتل؟! – قتل على الحدود» راجع ص7، وهي تتكون من اثني عشر فصلا سوى المقدمة، وقد تفاوتت فصولها من حيث الطول، وسبقتها عبارات شاعرية وأدبية معبرة صاغتها بإحكام تدور أغلبها حول تمجيد الحب الذي ربطها ببدر كعبارة «لا وقوع في الحب، إنَّما ارتقاء لمرتبة بشر» ص 43، «أحببتك، وكان حبُّك ابتسامة الرَّب لي» ص69، و «ما الوطن إلا ما وطَّنا فيه أنفسنا، وأنت وطني» ص191، وعبارات أخرى طويلة مثل «أنت قطعةٌ من قلبي إن اقتطِعت منه شُوِّه، وإني لأدعو الله ألا يذيقني حرَّ انتزاعِك من صدري فأهلك» ص139، ولم تكتف الروائية بذلك، فعنونت الفصول بنغمة الحب الحقيقي كعنوان فصلها الأول «عبثية اللقاء»، و«حبك سر تفرُّدي»، وعنوانها الأخير «وفاء».
يمتاز أسلوب الكاتبة بالشاعرية الحساسة، ولغتها الأدبية التي يكثر فيها الوصف، وتقل الأحداث، وبخاصة تلك التي تبوح بمكنونات شخوصها، وقد انحصرت بؤرة الصراع في حبها الصَّادق لبدر، ويمكن تصنيفها ضمن أخواتها من أمثال «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي وغيرها. استطاعت الروائية فرح أن تثير بعض الأسئلة الوجودية في خطابها الروائي، ذلك الخيط الرفيع الذي حرصت على امتداده من البداية، وعدم انقطاعه طيلة زمن الرواية على لسان أكثر من شخصية بصيغ متقاربة، ولكن المؤدى كان واحداً، ألا وهو: (هل كان الله معي.. معنا.. معهم .. إلى آخره.)، وهي هنا تثير قضية فلسفية وعقائدية في قالب روائي ترتكز على عقيدة القضاء والقدر، وبتعبير آخر: هل الإنسان مجبر على أفعاله ليكون الله معه دائما يقدر الأمور كيف يشاء؟ وهل إذا وقف -الله تعالى- ضد فعل أو سلوك معين يمكن تفسير ذلك أنه ضده؟ وهكذا يكون الإنسان ضحية الجبر الإلهي، وهنا يطرح تساؤل مهم على إثره: هل الإنسان مخير أم مجبر على أفعاله؟ يبدو لمتابع سير الرواية حتى نهايتها أن الروائية تركت الإجابة للمتلقي نفسه ليتفاعل معها، في أسلوب هدفه الأساس هو التشويق، وترسيخ تلك العقيدة المتأصِّلة، وبضم التساؤلات لبعضها يمكننا الاستنتاج أن الروائية تؤكد أن عقيدة الجبر هي المسيطرة على حركة الإنسان في هذا الوجود، في قبال رأي آخر يرى أن الأساس هو التخيير، ورأي ثالث يؤمن أنَّ الأمر يتأرجح بين الجبر والتخيير. يمكن تصنيف الرواية كرواية (نسوية) لإثاراتها المهمة في هذا الشأن، كقوة شخصية المرأة، وقدرتها على اتخاذ قرارها بعيدا عن سلطة الأهل، وبخاصة الرجل القوي في العائلة بحسب الموروث الشعبي (الأب) في تكوين العلاقات مع الجنس الآخر لأبعد الحدود، وقدرتها الغالبة في التأثير على الرجل، وتجلى ذلك بشخصيات الرواية النسائية، وعلى وجه الخصوص الشابة مريم (زوجة والدها) تلك الشخصية الرئيسة المهيمنة، التي نجحت في تغيير سلوك أبيها الفض إلى تقبُّله تغييرابنته «سلمى» لملابسها التقليدية، وتقبُّل وضعها مساحيق المكياج. ونجحت مريم كذلك في التأثير عليها بإقناعها من الزواج بابن عمها «عاكف» الإرهابي المتشدد، لكن الروائية في موضع أخر تناقضت بجعل البطلة ترضخ لسلطة العادات والتقاليد ممثلة بسلطة (ولي الأمر) في حقه الأصيل بتزويج بناته دون رضاهم في مخالفة صريحة للشرع والقانون، فلا تلجأ إلى السلطة أو العلماء، أو تفر وتهرب مع حبيبها، بل تتنازل في نهاية المطاف لسلطة الأب برغم عدم قناعتها، كما تنازلت في لبسها الحجاب عند بلوغها برغم عدم اقتناعها بذلك راجع ص152، وربما منشأ ذلك مراعاتها الجنبة الأخلاقية في وجوب طاعة الوالدين لا العقلية المتمردة.
قد يبدو حب سلمى لبدر غير مقنع، وربما كان ذلك مُتعمَّداً، فلو كان قويا بما فيه الكفاية لواجهت به العالم، وليس أسرتها فحسب، ولم ترضخ للعادات والتقاليد البالية التي انتقدتها الروائية في أكثر من موضع. تخلل الرواية حوارات باللهجة العامية الدارجة البسيطة رغبة في إقناع القارئ بمصداقية الحبكة الفنية، وقد أعملت خيالها في توظيف (تقنية الكوابيس) كما جاء في طيات الرواية، وعلى ظهر غلافها الخلفي، فرأت نفسها مع بدر، وكانت تبدو عليه ملامح الرجولة، ولم يكن يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، بينما هي قد شاخت وبدا عليها الهرم، تقول في ص8 (هل أحببت صبيا بعمر ابني..؟)، وربما تشير بذلك لما سيحل عليهما لاحقا من مآسٍ. كما وظفت تقنية القصص القصيرة عن صديقاتها كقصة رواء وعيسى، التي شبهتها بحب (جميل وبثينة) ص143، وقصة حب نورة وأحمد ص149، وقصة قصيرة جدَّا في سطر حول عاكف راجع ص155، كما وظَّفت المثل الشعبي ص218. شاب الرواية بعض الأخطاء اللغوية الشحيحة والرَّتابة نظراً لقلة الأحداث، لكنها عوضتها بلغتها الشاعرية ووصفها الجميل.
الرواية تقع في 224صفحة من القطع المتوسط دون صفحة التعريف بالكاتبة، وهي تتحدث عن قصة حب بين شابة في الثلاثين اسمها «سلمى» في سنتها الجامعية الثانية، و«بدر» الذي كان يعمل بنظام النوبات، مما تسبب في قلة لقاءاتهما، وقد أجبرت الشابة من أبيها «أبو حمود» المطلاق المزواج، الذي طلق زوجتيه لعدم انجابهما، ولم تكد تفرح أمها «أم حمود» حتى تزوج عليها بمريم. كانت علاقة سلمى بأمها تبدو متوترة ومتشنجة في أكثر من موقع، على النقيض من علاقتها مع زوجة أبيها المثقفة المتفهمة «مريم»، التي أقنعتها بالزواج من ابن عمها المتشدد، والذي يطلق عليه المجتمع(مطوَّع) بناء على شكله الخارجي، بينما كان إرهابيا داعشيا راح ضحية تشدده. لم تحبه، وكان يحبها من طرف واحد، فرحت بموته والخلاص منه، ربطتها ببدر علاقة تعدت الحب العفيف لحب جسدي، وهنا تطفو الجرأة من الكاتبة، لكنها لم توفق للارتباط به برغم خيانتها لزوجها، واستمرار العلاقة معه قبل وبعد موت زوجها «عاكف». ارتكب «بدر» خطأ بدفع ضابط؛ فحكم عليه بالسجن ففر من البلد، وهاجر لبلد جار ربما يكون (جدة) أو (دبي)، عاش هناك مع عمته هروبا من الحكم القضائي، عاد لبلده، فرحت بذلك، فتقدم للزواج من محبوبته بعد سقوط التهمة عنه بالتَّقادُم، لكن الأب عندما علم بذلك وبَّخها ورفضه، ومع الحاحها عليه أكد عليها بأنَّه سيرفضه لو اكتشف سببا واحدا لذلك، وهذا ما حدث بعد معرفته بسيرته قبل هروبه، أخفق بدر فالتحق بالعمل في الجيش، وقد استسلم هو الآخر للأمر الواقع، فقد أجبر على الزواج من قريبته، لكنه قتل في إحدى الجبهات كما مات أخوه «نعمان» في مطلع الرواية، وفي الخاتمة تزوجت سلمى من ابن عمِّها «سالم» الذي أحبها منذ الصغر، عاملها بود، وقد استطاعت بفضل تفهُّمه تحقيق شيء من طموحها بتسمية مولودها الأول منه «بدر» في مثالية نادرة.
الأستاذ ناجي جمعه
روائي وناقد بحريني