تمتلك الشعوب إرثاً ثقافياً ضخماً ذو هالةٍ ممتدة على مر العصور تتزامن مع التغيرات الشخصية والمجتمعية ولكنها تحافظ على بريقها ككنز ثمين يجسد حضارة بلد ما في فترات مختلفة . ويبقى ذلك المخزون في تزايد مستمر على مدى تعاقب الأجيال التي يتأطر منها الباحثون والمؤرخون ممن يحملون على عاتقهم مهمة توثيق هذا الإرث بشخوصه وموضوعاته المختلفة وإظهار هذا الفخر للعالم أجمع . ومن هذا البحث تنطلق الدراسات والتوصيات التي تصب جميعها في مصلحة تأريخ الحدث وتعطي الميدالية الذهبية في المحافظة على عراقة الأصالة رغم الامتداد الزمني الكبير . وعطفاً على ما سبق ، تصدرت دلمون كونها أرض الحضارة حقبةً ثقافيةً لامعة من المبدعين ممن برعوا في مجال الأغنية فبقيت أصواتهم تطرب وترنم الأذان حتى يومنا هذا.
وفي هذا الصدد ، كنا مع الكاتب إبراهيم راشد الدوسري والذي يعد أحد أهم الباحثين على مستوى المملكة والمؤرخين لمجال الأغنية البحرينية وفق مرجعه المتفرد (( كتاب ذاكرة الأغنية البحرينية )) في أمسية متميزة بأسرة الأدباء والكتاب تحت إدارة أ.عيسى هجرس لتدشين هذا المنجز والوقوف على أهم الموضوعات التي تناولها في حقبةٍ تراوحت من العام ١٨٩٥ م حتى العام ٢٠٢٤ م خلال ٤٨٥ صفحة تدفق منها اثنى عشر فصلاً استقل فيها كل فصل بتبويبة ولوحة خاصة . تناول الإصدار بإسهاب حركة صناعة الأغنية البحرينية وفق العديد من الموضوعات منها الكلمات ، المغنين ، الملحنين ، العازفين وغيرها الكثير ، في جهد بالغ الدقة تم فيه لم شمل كافة التطورات للأغنية المحلية مع الإشارة بالدور الكبير الذي اضطلع به الراحل الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة في مجال التوثيق المرئي للفنون البحرينية وتسليط الضوء عليها باعتبارها جزء لا يتجزأ من حضارة هذا الوطن .
وتطرق الدكتور راشد نجم رئيس أسرة الأدباء والكتاب عبر تعقيبه إلى عملية التوثيق بالغة الجهد التي بذلها الكاتب من خلال حسه الابداعي وصبره وبحثه عن المعلومة الغير موجودة في المصادر مما يعرضه في هذه الحالة إلى التشعب في الموضوع وهو ما تتولد عنه الاشكالية المتعرضة لهذه المصادر ، إذ أن معظم هذه المراحل التوثيقية مصدرها المشافهة فقط والتي تعد من أصعب أنواع التوثيق ، فهي ليست بالغة الدقة حيث يقوم الكاتب بالبحث عن المعلومة من خلال زيارة العديد من الأشخاص والاماكن ذات الصلة مما يضطر معه الكاتب لاحقاً إلى تمحيص ومضاهاة وغربلة هذه المعلومات وهو جهد ليس بقليل . وأوضح العديد من النقاط المهمة التي يتوجب على الكاتب استهدافها في الطبعة الثانية للمنجز بما فيها تعديل المعلومات ، تلافي الاخطاء الموجودة سابقاً ، تعيين مدقق لغوي كونه العين الأخرى القارئة وهو عرف سارت عليه جميع دور النشر مع تصحيح الأخطاء المطبعية. منوهاً على أن هذا الكتاب يعد أغنى مرجع للاغنية البحرينية حيث يوثق الحراك المحلي في مجال الاغنية والذي يحث الباحثين على استخراج دراسات فنية كثيرة لأي شخصية وطنية ترتقي بالذائقة البحرينية .
وتحدث أ.ابراهيم راشد عن تجربته البحثية في استقاء المعلومة من خلال قيامه بزيارة بعض الفنانين البارزين في مرحلة الخمسينات والستينات الميلادية، واللجوء للصحافة في أبواب السير الفنية كأخبار الخليج والأيام علاوةً على المجلات التي خلا وجودها اليوم، وقد استغرق منه ذلك البحث جهداً كبيراً وعميقاً على غرار المغنين الحديثين حيث كان الوصول لهم أسهل . فالباحث يجب أن يتحلى بالصبر والتحمل من أجل الحصول على المعلومة التي قد تأخذ منه وقتاً طويلاً ولكنه في سبيل المصداقية والواقعية عليه أن يتحمل هذا العناء .
وقد تناول الإصدار جميع جوانب الأغنية البحرينية بدءاً من الفنون الشعبية إلى سير المطربين الشعبين وغيرهم ممن توقفوا حتى المطربين الحديثين اليوم ، كما ذكر المهرجانات الغنائية على سبيل المثال المهرجان الأول الذي شاركت فيه مملكة البحرين بالدنمارك والدول الأوروبية بقيادة نجوم ورواد الاغنية البحرينية في ذلك الوقت . مع التعريج على جمعية الموسيقى للفنون الشعبية والتي شكلها كلاً من احمد الفردان ، عيسى جاسم و راشد المعاودة . فضلاً عن شعراء الأغنية و المغنين والملحنين والفرق الموسيقية دون إغفال شركة شخص وصورة لمالكها احمد ابراهيم جمال والذي كان له دور وطني كبير في الوقوف خلف جميع الفنانين البحرينين سابقاً ودعمهم وتجسيد طموحه من خلال هذه الشركة في ابراز الاغنية البحرينية التي تحمل الاصوات البحرينية والحس والشعور البحريني والارتقاء بها كجانب من الثقافة البحرينية .
الكاتبة وفاء فيصل
جريدة أخبار الخليج