انطلاقاً من الأنماط المتفرعة للأدب نقف اليوم مع أحد أكثر الأنواع إثارة وهيمنة على الساحة المحلية وهو الأدب المعني بأدب الجريمة من حيث إقبال القراء وتفضيلهم ومن حيث اتجاه الكتاب الى هذا النوع كونه مليئا بالقضايا التي تعتمد على التحليل والتحقيق والدقة في الوصول إلى الجاني، مما يسهم في رفع مستوى التشويق والإثارة وهما العنصران الرئيسيان المكونان لهذا النوع من السرد.
وغالباً ما ترتكز القصص في أدب الجريمة على خيال الكاتب الذي يأتي في سياق خيال بوليسي وفق مقتضيات علمية أو تاريخية أو غيرها يقوم الكاتب فيها بإطلاق العنان لإبداعه الذي يتجلى في الإثارة القانونية إبان ارتكاب الجريمة وقبلها وقد يقف الكاتب إلى هذا الحد أو يواصل الإمساك بخيط السرد انتهاءً بأحداث قاعات المحاكم.
يعود تاريخ أدب الجريمة إلى القصص العربية «قصص ألف ليلة وليلة» حيث يقوم الجاني بقتل العديد من الجاريات بعد الانتهاء من سرد القصة وصولاً إلى الأميرة شهرزاد وتعتبر هذه السلسلة من أشهر القصص العربية التي لا تزال تتداول إلى يومنا هذا. فضلاً عن قصة التفاحات الثلاث وهي إحدى قصص ألف ليلة وليلة اشتهرت بها شهرزاد -جريمة العثور على جثة فتاة مقطعة في صندوق يخير فيها هارون الرشيد وزيره بالعثور على القاتل في ثلاثة أيام أو إعدامه عند فشله في ذلك، حيث تحتوي على عناصر خيالية بوليسية مع العديد من العقد التي يحاول المتلقي فكها في سبيل الوصول إلى الجاني.
أما على الصعيد العالمي يعتبر الكاتب الشهير فيودور دوستوفيسكي أول من تناول الحالة النفسية للمجرم عبر روايته الشهيرة «الجريمة والعقاب» لتلمع بعد ذلك في الأفق أسماء العديد من القاصين والروائيين في هذا الفضاء المفتوح كآرثر دويل وهو المؤلف لشخصية المحقق شارلوك هولمز، اجاثا كريستي، باتريشا هايسميث والعديد من الكتاب.
وعلى الصعيد العربي برزت أسماء لامعة في هذا المجال كالكاتب طارق منيب عن رواية «عرش الخليفة»، الكاتب زكي العريفي عن رواية «دموع التمساح»، والحديقة المفقودة لأمين الزاوي وغيرهم الكثير.
وفي هذا الصدد وفي مصاف المبدعين في هذا اللون الأدبي المتنوع أقامت أسرة الأدباء والكتاب مؤخراً أمسية تحت عنوان «سرديات الجريمة.. نصوص محمد سرحان أنموذجاً»
أدار الأمسية حسن الجعفر وبتعقيب كل من الدكتور فهد حسين والدكتور عباس القصاب، حيث جرى الوقوف على مجموعة من النصوص للكاتب محمد سرحان الذي وضع بصمة بحرينية خاصة في أدب الجريمة ليكون بذلك الكاتب الوحيد والمتفرد على الساحة المحلية الذي تطرق الى سرديات الجريمة وفق نمط إبداعي أمتاز بالتشويق والإثارة والغموض في قصص بوليسية صاغها الكاتب تاركاً للمتلقي البحث عن الحقيقة في أوساط الأدلة المذكورة.
جدير بالذكر أن للكاتب إصدارات عدة منها: قصة القضية المعقدة، قصة الجريمة الغامضة، قصة التحدي، قصة جريمة في شارع 70، قصة جريمة في زمن الكورونا، قصة المنجم.
وقد تطرق الدكتور عباس لمعالجة تجربة الكاتب من خلال الإشارة بدايةً إلى أن ما يستهوي الفئة الشبابية اليوم هو انتشار أدب الرعب والجريمة والذي يقوم على تحدي المتلقي من حيث الغموض في بناء الرواية أو القصة بحيث تأخذ المتلقي للمجهول ليكون المتلقي نفسه أحد الباحثين عن الأداة لحل هذه الجريمة.
وأكد ضرورة مراعاة الجانب الاخلاقي في هذا النوع من السرد بحيث لا يكتب الكاتب على سبيل المثال قصة عن جريمة الشرف المنتشرة في بعض البلدان العربية ويقف في موقف المتعاطف مع القاتل باعتباره دافع عن شرف عائلته، فالجريمة لا تبرر مهما تكن منوهاً الى أن سرديات الجريمة لا تقتصر على القتل فقط فهناك الكثير من الجرائم منها جرائم السرقة الأدبية على سبيل المثال، جريمة خيانة الأمانة وغيرها الكثير.
مسلط الضوء على صعوبة تجنيس هذا النص السردي الذي يقع بين رواية قصيرة أو قصة طويلة.
وبالعودة إلى النصوص المطروحة محور المعالجة نجد أن في قصة المنجم للكاتب عنوان مثير، فهناك غيبيات توحي للمتلقي بوجود حدثاً ما سيكون متوقعاً من هذا المنجم وهو يقوم بإلقاء ثلاث جرائم على الهواء مباشرة محركاً رجال التحقيق للبحث عن الأدلة والفاعل مع ملاحظة تعدد الامكنة في هذه القصة كالمقهى والشوارع وبيت المحقق.
وقد عبر الدكتور فهد عبر معالجته لسرديات الجريمة بأنها أولاً لا تعني سرديات الأدب البوليسي ولكن السرد الخليجي العربي يتجاهل الكثير منها ولا يسلط الضوء عليها إلا نادراً ومنها جرائم النصب والاحتيال التي يعاني منها الكثير وجرائم الشرف وغسل الاموال، جريمة تبادل الاطفال في المستشفيات والعديد حيث نجد أن هذه الظاهرة تكتب بين السطور ولكن ليست ثيمة أساسية موجودة في السرد بالمنطقة.
كما أن هناك فرق بين نص يعتبر هو أدب الجريمة وهو أدب بوليسي ونص مبثوث به الجريمة كما في رواية الدكتور جعفر الهدي الشرنقة حيث تطرقت للقتل ولكنها كتبت ليس ضمن سياق الأدب البوليسي، فكثير من الكتابات تأخذ ملمح الأدب البوليسي لكنها ليست عنصرا أساسيا في العمل.
ومقارنة بنصوص أ. محمد سرحان نرى أنها قد بدأت بالأدب البوليسي من بداية النص حتى نهايته.
وأشار إلى أن لغة الأدب البوليسي تختلف اختلافاً كلياً عن كتابة الرواية بسياقات أخرى فالاختلاف في اللغة نفسها فلغة الأدب البوليسي لغة سهلة ذات طابق تشويقي وهي لغة غير عالية جداً لا تحتاج إلى جهد من القارئ ليعرف ما بين سطور الكلمات.
فقد استخدام ذات الشخصية وهو المحقق ليث وهي ميزة تحسب للكاتب وفق عالمه المميز، فله نطاق جريمة خاص وهو ما يعد مشروع متكامل في كتابة الأدب البوليسي.
ويمتاز المحقق ليث بالذكاء وسرعة البديهة والشغف بمهنته وبالتطرق للنصين قصة جريمة في شارع 70 «و» قصة عودة جاك السفاح توحي العناوين بثقافة الكاتب فهو يعي الدور الذي تقوم فيه الشخصية فيعرف من هي الشخصية وماذا كانت تفعل حيث تعدد الشخصيات بكثرة خاصة في قصة الجريمة في شارع 70 وهو ما يزرع الوهم عند القارئ أثناء توقعاته عن المجرم فيتوه وكان الكاتب متقناً في ايهام القارئ فيما يتعلق بالمجرم.
مؤكداً الدكتور فهد ان الادب البوليسي يعطي النتيجة بدايةً ثم تبدأ الاحداث عكسية ليبحث القارئ عن من يقوم بالجريمة وهو ما يأتي على خلاف سياق الرواية.
متابعة وكتابة: وفاء فيصل
الملحق الثقافي بجريدة أخبار الخليج