لم يرد الباحث والكاتب البحريني حسن مدن في ورقته التي قدمها يوم الأحد الماضي (23 إبريل/ نيسان 2017)، في أسرة الأدباء والكتَّاب، أن تكون نقدية؛ بل أرادها حميمة تصدر من القلب للتعريف والتذكير بقامة كأنطون تشيخوف؛ وخصوصاً أن «في الكُتّاب العظام سحر لا يقاوم، كأنَّ صلة روحية تنعقد بيننا وبينهم، حين نكون قدْ قرأنا أدبهم وعرفنا الطَّريقة التي يفكِّرون بها، وطبيعة تلك «المنولوجات» الدَّاخلية التي تنتاب أرواحهم. وبوسع أيِّ قارئ على قدْرٍ من الذَّكاء والنَّباهة أنْ يمسك بفلذة منْ روحه وهو يقرأ تشيخوف. إنَّه الكاتب الذي يشبهنا نحن البشر البسطاء في عواطفنا وفرحنا وضجرنا». كما بدأ ورقته المعنونة بـ «الطريق إلى تشيخوف».
هذه الرغبة أثارت الاحتجاج لدى بعض المتداخلين عقب تقديم ورقة مدن، إذ كانوا يرون أن قامة كتشيخوف يجب ألا تتناول بهذه الطريقة، بل كان يجب أن تقدم بشكل أكثر عمقاً وتحليلاً وتفكيكاً. لكنه رد عليهم قائلاً: إن المحفل الذي نحن فيه ليس محفلاً نقدياً ولا متخصصاً في التحليل والتفكيك، وأن الورقة المقدمة توقفت عند عنوانها الذي أردت له أن يكون احتفائياً لا نقدياً.
بدأت الورقة بالتعريف بالأدب الروسي بشكل سريع للوصول إلى أنطون تشيخوف؛ إذ تحدث مدن عن بداية علاقته بأدبه والتي بدأت عند زيارة قام بها مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لبيته الرِّيفي في مدينة يالطا المنتجع الجميل على البحر الأسود. وأضاف: «عاش أنطون تشيخوف في بطرسبورغ وفي موسكو، ولكنَّه ذهب الى الجنوب - إلى يالطا - بحثاً عن الدِّفء ليساعده في العلاج من مرض السُّل الذي أنهكه وأودى بحياته باكراً في مصحٍّ في إحدى المدن الألمانيَّة التي ذهب إليها جرياً وراء العلاج. ولكنَّه رحل مبكِّراً بعد أنْ عاش بالكاد أربعين عاماً ونيِّفاً فحسب، لكنَّه خلَّف وراءه تراثاً هائلاً، ثريَّاً من الفن القصصيّ والمسرحيّ الذي ستظلُّ البشريَّة، في مختلف اللغات التي تقرأ وتتحدَّث بها تعود إليه».
ثم تحدث مدن عن بقايا صور مازالت عالقة في ذهنه عنْ هذا البيت البسيط والأنيق، الذي تحيط به حديقة صغيرة. والذي كتب تشيخوف بعض مسرحياته وقصصه ودوّن بعض رسائله ومذكراته، قائلاً: «ما زلت أذكر ذلك الشُّعور المهيب الذي انتابني لحظتها، كأنَّ أنفاس الكاتب الكبير الذي ما زال وسيظلُّ يبهر العالم تدبُّ في ذلك المكان».
ثم أدخل جمهوره إلى مسرح البولشوي، وعروض الباليه الشَّهيرة، وعرض «تشايكا» (النَّورس) المأخوذ من نصِّ تشيخوف المسرحيّ بالاسم ذاته.
مضيفاً «ليس بعيداً عنْ مسرح (البولشوي)، يقع المسرح الصَّغير (مالنكي تياتر) الذي على خشبته قدِّمت مسرحيّات تشيخوف الشَّهيرة، وبوسعك وأنت تتابع العرض أنْ تتخيَّل هذا الكاتب العظيم وهو يتابع منْ أحد كراسي هذا المسرح بروفات عروض مسرحياته التي كان يديرها صديقه المخرج ستانسلافسكي».
وحول مسيرته في تعلم الروسية والاطلاع على الأدب الروسي يقول حسن مدن في ورقته: «في السَّنة الثَّانية من وجودي في موسكو التقيت بمعلِّمة اللغة الروسية للأجانب نتاليا بيتروفنا التي كتبت أطروحة تخرجِّها في كليَّة الآداب عنْ تشيخوف، وإليها يعود الفضل الأكبر في التعرف إلى أدب تشيخوف، الذي تعلقت به، ومع الوقت أدركتُ أنَّنا نعود إليه عندما نضجر، وعندما نفرح، عندما نحبّ، أو حين يسود الرّوح الجفاف. تشيخوف صديق الكتابة والقراءة ورفيق الروح. وما زلت أحرصُ على أنْ أضع مجلَّدات أعماله منْ قصص ومسرحيّات في مكان قريب من اليد والعين، أقرب مكان يمكن أنْ أصل إليه في مكتبتي بدون بذل أيِّ جهد في البحث والتَّذكُّر» .
وتحدث مدن عن أسلوب تشيخوف قائلاً: «يكتب تشيخوف مسرحياته وقصصه ببساطة متناهية، لكنَّها بساطة خادعة، إنَّها تنمُّ عنْ عمق قلَّ نظيره، لأنَّه يكتب ببساطة، بعفويَّة، بتلقائيَّة لدرجة توهمُّك لوهلة أنَّك قادرٌ على أنْ تكتب مثله، تقول مثله، ولكنْ هيهات، مبهرٌ تشيخوف في مقدرته الفائقة على وصف العاديّ، الرَّتيب، المملّ، على وصف الحياة منْ دون خوارق ومنْ دون معجزات، لكنَّه قادرٌ على أنْ يجعل منْ هذا العاديّ أدباً جميلاً». وأضاف «لدى تيشخوف تلك المقدرة التي لا يبزُّه فيها أحد على أنْ يلج إلى أعمق الأعماق في النَّفس الإنسانيَّة بمنتهى البساطة، بمنتهى السَّلاسة دون أدنى تكلُّف أو افتعال أو مبالغة، وأنت تقرأه تجد نفسك ونفس منْ تعرف من البشر كتاباً مفتوحاً، وذلك ليس لأنَّ تشيخوف يقدِّم نسخةً من الواقع، من الحياة، وإنِّما لأنَّه يرى في السُّلوك العاديّ اليوميّ للبشر ما هو وراءه، يرى بواعثه.
وقد أكد اهتمام العالم كله بتشيخوف؛ إذ صدرت أعماله في ترجمات بلغات عدَّة، وعلى سبيل المثال ثمَّة حديث عنْ ظاهرة انبعاث الاهتمام بأدبه في اللغة الإنجليزيَّة، حيث صدرت في غضون الأعوام الماضية عديد الكتب المرتبطة باسم تشيخوف، بينها كتاب عن «تشيخوف غير المكتشف».
واستدرك مدن قائلاً: «الحقّ أنَّ تشيخوف يمكن أنْ يُقرأ، لا بلْ ينبغي أنْ يقرأ في كلِّ الأعمار، ولكنَّ العودة إليه في سنّ النُّضج تُكسب قراءة أدبه متعة إضافية. إنَّ مهارة هذا الكاتب العبقريّ تكمن في مقدرته على الاحتفاء بالعاديّ، والرُّوتيني واليوميّ، لا بل بالضَّجر اليوميّ ليجعل منه أدباً. إنَّه يُدخل تفاصيل الحياة اليوميَّة في السَّرد، ولكنْ ليس برغبة السَّرد وحده، لأنَّه يذهلنا بتلك المُزاوجة الفذَّة بين التَّفصيليّ، اليوميّ، البسيط وبين ما هو فلسفيّ ومجرَّد أو مطلق.
وأوضح «تشيخوف لا يعطي جواباً صريحاً عن المسائل التي تعتبِّر موضوعا للجدل وهو يستدرج القارئ نحو الحقيقة لا كاقتصاديّ وعالم اجتماع بلْ كفنَّان، وإذا كنَّا نعرف حقا من المصيب وأيّ طرف يناصره المؤلِّف فنحن لا نصل إلى ذلك من الاستطرادات ولا حتَّى من مقارنة البراهين التي يسوقها الطَّرفان المتجادلان.
وأكد مدن أن تشيخوف لا ينبذ فكرة السَّعادة الإنسانيَّة، إنَّما كبت المشاعر والصَّبوات الطَّبيعيَّة للإنسان. فقدْ صوَّر التَّناقض المأساويّ بين ما تجيش به نفس الإنسان منْ طموح طبيعيّ إلى السَّعادة وبين الواقع الاجتماعيّ حيث تبيِّن أنَّ التَّناقض هو الشَّكل الأوفى للتَّعبير عن المأساة العظمى وكان بارعاً في رصده لهذه المأساة في كلِّ مكان، بلْ في أقلِّ المواقف الحياتيَّة شأناً، ولا عجب، فهذه المواقف، لضآلة شأنها بالذَّات، قدْ فقدت ابتذالها وأترعت بأعمق المعاني.
وأضاف «تشيخوف كاتب روسيّ بالمعنى الأعمق لهذا التَّعريف، وهو كذلك ليس بسبب حبه للإنسان الرُّوسي والطَّبيعة الرُّوسيَّة وانغماسه في مشكلات الحياة الرُّوسيَّة، فهو قد أفصح عنْ واحدة منْ أهمِّ خصائص الفكر الرُّوسيّ في زمنه، ونعني بها اهتمام هذا الفكر بالمسائل الأساسيَّة للوجود الاجتماعيّ، المسائل التي تمسُّ المصالح الحميمة لا للإنسان الرُّوسيّ وحده، بل ولكلِّ إنسان بغضِّ النَّظر عن انتمائه القوميّ والعرقيّ، وهكذا بوسعنا فهم ما الذي عناه تولستوي حين قال: «تشيخوف فنَّان ليس له مثيل. فنَّان الحياة، ومأثرة إبداعه هي في كونه مفهوماً ومُقرَّبا ليس الى كلِّ روسيّ فقط، بلْ وإلى كلِّ انسان عامَّة. وهذا هو الأهمّ».
واختتم مدن ورقته بعبارة لتشيخوف وهي: «لا ليس الإنسان إنَّما الجثمان هو الذي تكفيه من الأرض أمتار ثلاثة... أما الإنسان فهو لا يحتاج إلى أمتار ثلاثة... أو إلى قصر ريفي. إنَّه بحاجة إلى الكرة الأرضيَّة كلِّها... بحاجة إلى الطَّبيعة كلِّها... فهناك في اتِّساعها الهائل يستطيع كشف كنهه وميزات روحه الحرة»!
سوسن دهنيم.