محمد عبدالملك في حوار مع صحيفة «الشرق الأوسط»: لا تتسع الثقافة وتكبر إلا في المناخات الحرة.

بعد أمدٍ طويل، عاد صاحبُ «غليون العقيد» إلى اضواء الصحف، ففي الثالث عشر من (أغسطس) الجاري، نشرت «صحيفة الشرق الأوسط»، لقاءً صحفيًا أجراهُ الزميل ميرزا الخويلدي، مع الروائي البحريني محمد عبدالملك، الذي التقاهُ في «لندن»، حيثُ كان في زيارة للعلاج والاستجمام، وجاء عنوان الحوار، تصريحًا لملك، أكد فيها أنهُ «لا بد من التجديد... ستضجر من نفسك أو يضجر القارئ»، لافتًا في العنوان الفرعي إلى أنهُ «حاول ترك الكتابة بسبب الإحباط».

الأديب البحريني الذي «اعتبرهُ كثيرون أهم من كتب الرواية الحديثة في البحرين، والخليج عمومًا»، لفت في مستهل حديثه إلى أن «الرواية بالنسبة لي هي وجود، وحياتي تفتقد المعنى من دونها»، مضيفًا «أنا لست أنا إذا لم أكتب، في هذه الحالة أكون خارج المشهد، وهذا يجعلني متوترًا وقلقًا».
وبصدد تبيان أسباب محاولتهُ ترك الكتابة قال ملك، إن ذلك نتيجة «الإحباط الذي يصاحب الكتاب عادة، خاصة في العالم الثالث»، مبينًا أن هذه الأسباب تطول، بدءا من «الضريبة العالية التي يدفعها الكاتب من حياته، وليس آخرها عدم إقبال الناس على القراءة بعد الطفرة النفطية»، وقد أوضح صاحب «ثقوب في رئة المدينة»، أن سؤالًا ملحًا كان يعترضُ طريقهُ طوال الوقت، يتساءل فيه «عن جدوى الكتابة إذا لم يكن هناك متلق».

غواية الرواية
وردًا على سؤال حول أسباب عودتهِ للكتابة، وما آلت إليه الرواية، بين ملك أن الكاتب «يدمنُ الكتابة، ولا يستطيع أن يعيش من دونها، فهي تحقق له الرضا عن الذات، وراحة الضمير والشعور بالامتلاء والتميز، الكتابة في أسوأ حالاتها ممتعة وجميلة»، مضيفًا على صعيده الشخصي «منحتني الرواية فرصة أكبر للتعبير عن الذات، التي هي في معظم الحالات تلتقي مع ذوات الآخرين، إذ مع اختلافاتنا الفردية يظل هناك قاسم مشترك».
ولفت ملك بأن «الرواية هي مساحة شاسعة للبوح ومشاركة البشر في أحاسيسهم، وطموحاتهم، وعذاباتهم اليومية، ومع ذلك فالرواية أفقها مفتوح على الحياة، وهي متنوعة، تتزاحم فيها النقائض والمفارقات كلها»، متابعًا تبيان جمالية جنس الرواية من بين باقي الإجناس الأدبية، بالقول «أنت أكثر حرية وانطلاقًا في التعبير والرصد والمكاشفة»، في هذا الجنس، كما أن الابتكارات فيه «أغنى وأكثر تعددًا، لذا فالرواية تشكل إغراء لا يقاوم عند الكتّاب، وهي تحتضن في الوقت نفسه فنونًا كثيرة؛ الشعر أولًا، الحوار المسرحي، السينما، الفن التشكيلي خاصة في الرواية الجديدة التي ظهرت في فرنسا؛ وهي تعتمد في تقنيتها على تعدد اللوحات، والمشاهد وتداخلها»، مؤكدًا أن «الرواية تتسع لسرد تفاصيل الحياة اليومية، كما يتعدد فيها أفق الخلق والابتكار، ربما لهذا السبب أغرت الرواية الكثيرين، ولَم ينج الشعراء من هذا الإغراء».

منجز لا يكتمل
وفي ردهِ على سؤال حول ما إذا كان أنجز مشروعه الروائي، أوضح ملك بأن «الكتابة حين تبدأ لا تنتهي ولا تكتمل. وما دمت مصممًا على الكتابة، وتلتزم بشروطها ورغباتها، وتنصاع لأهوائها، فدائمًا هناك رواية تنتظرك، أو تطل عليك من بعيد، ما دمت تتنفس وتعيش فهناك دائمًا مشاريع للكتابة تظهر في ذهنك، وتظل معك فترة طويلة، وأحيانًا تفاجئك رواية أو قصة تظهر في الطريق. الحياة ذاتها تمنحك مادة للكتابة».
وتابع مجيبًا على ما إذا كان يفتقدُ البيئة البحرينية التي كانت سائدة في بداية السبعينيات، وشكلت مصدرا للإلهام والإثراء، بأن «الكتابة على وتيرة واحدة لفترة طويلة تفسد مشروع الكاتب برمته. لا بد من التنوع، لا بد من الانتقال، والتغيير، والتجديد وإلا سيضجر منك القارئ ويتركك وحدك، وقد تضجر أنت من كتابتك»، وبين أن خوض تجارب جديدة في هذه الحياة، ونمو التفكير، يتسببُ في تغيير القناعات. ولفت إلى أن مسيرتهُ الإبداعية بدأت بشكل «اندفعت أكتب على سجيتي، وفِي مرحلة لاحقة بدأ تأملي في الحياة يكبر، واتسعت المعرفة، وتنوعت الأفكار، فوجدت ضالتي في القصة الرمزية؛ في المرحلة الأولى رصدت الآلام المبرحة للناس في حياتهم اليومية، وفِي المرحلة الثانية اتسعت مداركي فولجت في الرمزية دون أن أتخلى عن الهم الإنساني فهو جوهر الكتابة في كل العصور».
ولفت ملك إلى أنهُ ومع شروعه في الكتابة الرمزية استهوتهُ القصة السيكولوجية، «لأحاول الولوج إلى الداخل في الدهاليز الخلفية للبشر»، مضيفا أن هذا التغيير ابتدأ مع مجموعة «رأس العروسة» واستمر حتى الآن «حين اكتشفت أن الغموض أيضًا يشكل إضافة مهمة في الكتابة، فالحياة ذاتها غامضة، لكن الغموض سلاح ذو حدين، وقد يفسد الكتابة إذا لم يع الكاتب كيفية استخدامه».

بروز الرواية الخليجية
«الرواية الخليجية كتبت منذ خمسة عقود وهي الآن في مرحلة نضج وانبعاث جديد لافت»، بذلك أكد عبدالملك، ردًا على سؤال ما إذا كان الخليج أنتج عملًا روائيًا، مضيفًا أن «الرواية الخليجية في أوج انتعاشها الآن، وبخاصة الرواية السعودية، والدليل هو بروز وتفوق مجموعة من الروائيين الخليجيين على أقرانهم العرب في مسابقات (البوكر) العربية»، وتابع موصفًا المشهد الروائي الخليجي، استنادًا لما أنجزهُ الروائيون في مسابقة (البوكر)، إذ قال: «الخليجيون فازوا بالجائزة أربع مرات في عشر مسابقات، هذا دليل كاف على الحضور اللافت للرواية الخليجية»، مضيفًا «أن ظهور كم كبير من الروايات المتهالكة، لا ينفي وجود روايات مهمة ومكتملة، ليس علينا أن نقلق من هذه الظاهرة، لأن الأدب يدافع عن نفسه، والمتطفلون على الرواية، لن يصمدوا طويلًا أمام النقد الجاد والقارئ اللبيب». وعن تأثير الجوائز على الأعمال الأدبية، أشار ملك إلى ان «الجوائز لا تصنع الروائيين، وإنما الروائيون يصنعون الجوائز».

لـ «أسرة الأدباء» دور أدبي ووطني
وفيما يخص دور «أسرة الأدباء والكتاب» اليوم، بين ملك أن دورها تضاعف في المشهد الثقافي البحريني «بعد الإصلاح السياسي، حيث توفرت البيئة الخصبة لازدهار الثقافة، التي لا تتسع وتكبر إلا في المناخات الحرة، وكلما اتسعت الحرية، انتعشت الثقافة، وليس من الإنصاف أن يأتي ذكر أسرة الأدباء والكتاب، دون أن نذكر دورها الريادي في نشر الثقافة والأدب والتنوير في البحرين وبشكل مكثف طوال أربعة عقود مفصلية في تاريخنا الحديث؛ تدفقت فيها سواقي أسرة الأدباء والكتاب، تضخ ماء الحياة والنماء في جسد المجتمع البحريني ونسقه، عبر إصدارات شعرية، ومجاميع قصصية وروائية، هذا غير الندوات والأنشطة الثقافية المتنوعة»، متابعًا أن للأسرة «تاريخ وطني أيضًا، فأنت لا تستطيع أن تفصل الوطن عن الكتابة، خاصة في الفترات الحرجة، وكما هو معروف فالأسرة ساهمت بشكل كبير في بث الوعي الوطني الذي كان الإصلاح من ثماره، وكان ذلك التوجه واضحًا في شعار الأسرة: (الكلمة من أجل الإنسان)».

جيل الحداثة الأدبية
وعن ما إذا كان يعدُ نفسهُ كاتبًا ملتزمًا، أكد ملك «أنا منحاز للإنسانية، بهذا المفهوم والوعي كتبت منذ الستينات»، وأضاف «الالتزام، صفة أفسدتها الأحزاب السياسية التي حاولت أن تحول الكاتب إلى واجهة إعلامية للحزب، لذا فالمفردة لم تصمد طويلًا، فذهبت، كما ذهبت معها مفاهيم أخرى هي إفراز لمرحلة أرادت فيها السياسة أن تبتلع الأدب»، مؤكدًا أن «كل الكتّاب بجميع تياراتهم وأنواعهم، على مر العصور ملتزمون بإنسانيتهم التي لا يتنازلون عنها، وهكذا تجد أن الالتزام هو شيء عفوي داخل الكتابة».
وفيما يتعلق بالسؤال عن الأسباب التي تعيق التجارب الحديثة، في المملكة، التي كانت سباقة في التعليم والاتصال بالعالم الخارجي، أشار ملك إلى أنهُ قبل الستينيات، كانت هناك «إرهاصات أولية لم تكتمل للفن القصصي، والجيل الذي أنتمي إليه مع عبدالله خليفة وأمين صالح ومحمد الماجد وخلف أحمد خلف تكفل بابتكار القصة، وحملها إلى ضفاف التجديد والتنويع ومحاكاة القصة العربية في أقطار المركز العربي في مصر وسوريا والعراق»، متابعًا أن من حسن حظ هذا الجيل «أن انتعاش القصة العربية بدأ في ذلك الوقت على يد يوسف إدريس ونجيب محفوظ وزكريا تامر ومجيد الربيعي وآخرين، وكان على جيلي أن يأخذ السرد القصصي إلى أفاق جديدة وأبعاد مختلفة، وهذا ما حدث، مع هذا الجيل بدت القصة أكثر اكتمالًا وتنوعًا، وأكثر اتصالًا بالحياة، والمحيط الاجتماعي والسياسي الذي كان جديدًا بدوره، كانت تلك بداية مرحلة الحداثة الأدبية والفكرية بشكل عام في كل الوطن العربي».
ولفت ملك إلى أن «القراء البحرينيين (في تلك الفترة) اهتموا بالسرد الحديث والشعر اهتمامًا كبيرًا، لأن هذه الحداثة حملت تطلعاتهم الجديدة ومعاناتهم، وهمومهم، وأشبعت شغفهم المتوارث للثقافة، وأذكر أن كتبنا كانت تنفد بسرعة في ذلك الوقت. وكان الناس يحاوروننا فيما نكتب في المجالس والشوارع والساحات» مختتمًا «كانت مرحلة نهوض ثقافي واسع اندمجنا فيه وأحببناه».

جريدة الأيام البحرينية.


شعار الخمسينيات

إصدارات الأسرة