البحرين ولّادة الشعراء والشاعرات: نطلاقة الشاعرة البحرينية نادية الملاح من عمق الألم إلى عالم الشعر الجميل.

اليوم أود أن أحدّثكم عن شاعرة ملهمة ومتألقة، أستطيع القول إنني عاصرت مسيرتها الشعرية منذ البدايات، إنها الشاعرة نادية الملاح.

إنّ من أهم الأسباب التي دفعتها إلى كتابة الشعر والإبداع فيه هو صدق إحساسها، والبَوح عن الألم. فالبوح عن الألم بصراحتها وشجاعتها الأدبية برأيي المتواضع هو من أهم أسباب انطلاقها نحو عالم الشعر، أقول من أهم الأسباب لأنّ هذا ليس هو السبب الوحيد، فالألم وحده لا يؤهّلها للوصول إلى هذا المستوى الكبير الذي وصلت إليه نادية الملاح في الشعر، بل الموهبة التي حباها الله بها، والموهبة لا تنمو إلا بصقلها والعمل عليها بالإكثار من القراءة، فهي لا شك أنّها قرأت الكثير من الكُتب فتمتعت بخصائص ثقافية واسعة، هذا عدا عن حبها بل وشغفها للشعر. كل تلك الأسباب عندما تكاملت لديها دفعت بها إلى كتابة الشعر بهذا المستوى الكبير.

إنها حقًا شاعرة كبيرة، فبمجرد أن تقرأ أي قصيدة من قصائدها في ديوانها الأخير «أسررتها» تُبهرك بالجمال الشعري ودقة وخصوصية اختيارها للكلمات التي تختصر لك المعنى، وتحرّك فيك الشجون. صدق من قال إن الشعر هو اختصار المختصر. والشاعرة نادية الملاح التزمت باختصار المختصر وذلك لقدرتها على اختيار الكلمة القوية التي تُقفل بها كل شطر في قصائدها، فبتلك الكلمة ترفع الستار عن الصورة الشعرية الجميلة التي بنتها، لتُوصل لك روح الإحساس بالمعنى.

الشاعرة نادية الملاح معظم قصائدها تنبع من الألم إن لم أقل جميعها، ولكنها شديدة الوفاء في حبها للرجل الذي أحبته بكل جوارحها، فهي تبقى وفية لحبيبها رغم أنه سبب ألمها لعدم الوفاء في حبه، وتبقى مخلصة، تتعايش مع قدرها وتحترم حبها، متمسكة بالأمل، كما يقول الشاعر بيرم التونسي في رائعته الأمل: الأمل لولاه عليا كنتِ في حبك ضحية، أنا بالأمل أسهر ليالي في الخيال، وأملكك ليلي ويومي، واجعلك فيها نديمي. إنها قمةٌ في المثالية.

نادية شاعرةٌ حزينة، ولذلك يغلبها البكاء في كثير من الأحيان في أثناء إلقائها الشعر أمام الجمهور، ولكنها تتمكن من إخفاء دموعها. في الوقت نفسه تعاتب ولكن بشكلٍ مبطّن بالحنين، فالعتاب هو المتنفس الذي يُشعرها بالراحة، وواضحٌ أنها تؤمن بمقولة: كن مظلومًا ولا تكن ظالمًا. هي تعلم أن وفاءها يجعلها أكثر ثقةً وأكثر احترامًا لإنسانيتها. يبدو أيضًا أنها تتبع قول الفنان العالمي الراحل تشارلي تشابلن في مقولته الشهيرة: «أنا أحب السير تحت المطر حتى لا يرى الناس دموعي».

ثم تبدو سعيدةً ومستمتعةً بقدرها، بقوة إيمانها، قابلة بما خطّه لها كاتب القدر؛ لذلك نراها قوية الإرادة، لا تهُزُّ حنّيتها عواصف الزمن، ولا تتأثر بردود الأفعال مهما قوبلت بالإجحاف، وتبقى نادية الملاح هي كما هي.

نراها عميقةً في حبها، حنونة بلا حدود، حيث تقول في قصيدتها «قطفة حُلم»:

وحِينَ تجيء بلا موعدٍ

وتمضي سريعًا وكلي معكْ

تصير الزوايا اعتلال وجودٍ

ويشهقُ ظلي كي يتبعكْ

ويندسُّ وجهي بين يدي

وأغمضُ كلي كي أسمعكْ

بعد هذا الحُب الكبير والحنان الذي أغدقته على حبها تُقابَل بالنكران، فأبدعت في قصيدتها «حشرجات الأفكار»:

وتركتني؛

وحملتَ روحي في يديكَ ولم تعي

أنّ ابتعادك كم يُبيح توَجُعي

وحفيفُ ظِلكَ في الطريق لَكُم يقولُ ويدعي...

أتركتني؟!

بين الجُموع وألفُ آهٍ تستفيق بأضلعي

وصدَى اشتياقي والحنينُ مُرَوِّعي

بعد كل هذا الجفاء والنكران، تبقى محافظة على حبها بكلّ إخلاص، فتقول في قصيدتها «شهقةٌ مُتَرَجِّلة»:

إليكَ أحِنُّ وكُلي إليكْ

ووجهي اشتياقٌ

لِمَسِّ يديكْ

وفي الروح لهفٌ

ولا منتهى

فلونُ القيامةِ

في راحتيكْ

أرتِبُ حُزني بحجم اغترابي

وقلبي اكتواءٌ

بلا مقلتيكْ

يا الله، ما هذا الوفاء، ما هذا الحب، بل ما هذه الشجاعة في البَوح عن أسرار قلبها أمام الملأ، أليست ترى حبها أكبر من كل شيء، أليست ترى كل شيء أصغر من حبها وهي محقّة؟

الأعظم من ذلك كله أنها تخاف على حبها من نفسها، ففي قصيدتها «هجرة مقدّسة» أوضحت ذلك بكل جلاء: 

سأهجرُ الكتابةْ

لأنّ مَن أحبه يعِدُه عذابَهْ

ويغضبُ يخاصِمُ

تصيبه الكآبةْ

إن مَرَّ حرفي عابسًا

من حُزتهِ أصابهْ

وفي نهاية القصيدة تختصر الكلام وتقول:

من أجلنا

سأهجرُ الكتابةْ

تلك هي الشاعرة نادية الملاح.

أحمد العباسي
جريدة الأيام البحرينية

شعار الخمسينيات

إصدارات الأسرة