الهاشمي: دخلنا «التنور» وحناجرنا اليوم تغتسل بـ «ماء الحرية».

في الإطلالة الأولى لبرنامج مسامرات ثقافية وفي بسطة من الحديث طاب لنا أن نلتقي بالشاعر والناقد وأستاذ الأدب الحديث بجامعة البحرين علوي الهاشمي، هذا الرجل الذي عكف على مشروع شعراء البحرين المعاصرين وراد أسرة الأدباء والكتاب سنين طويلة، شاعراً وناقداً ورئيساً... ساهم فيها مساهمات عديدة فأخرج الكثير من شعرائها إلى نور بهي وأفق مفتوح حينما كتب عنهم في «ما قالته النخلة للبحر و»،وفي «السكون المتحرك» بأجزائه الثلاثة وكتابات عديدة، اهتم فيها بشعراء الأسرة... بآمالهم بأحلامهم باستعاراتهم بإيقاعاتهم بلغتهم بأنساقهم وسياقاتهم المختلفة والمؤتلفة. عاد الآن من جديد إلى أسرته وبيته الذي قد يكون فارقه جسماً لكن قلبه كان حاضراً فيه دائماً.

* علوي الهاشمي، عدت إلى أسرة الأدباء والكتاب مرة ثانية من جديد، ولنا أن نتساءل: من هي أسرة الأدباء الآن بعد أربعة عقود من التأسيس؟ ما شعارها؟ هل مازال هذا الشعار مستمراً؟ هل مازال متحققاً على أرض الواقع؟ «الكلمة من أجل الإنسان»، هذا الشعار الكبير ماذا يمثل؟ ومن يمثل في هذا الزمن؟ أين تجدون إنسان هذا اليوم من هذا الشعار؟

- أنا لم أترك بيتي وأسرتي أبداً، لا أسرتي الخاصة ولا أسرتي الأدبية. أنا ظللت مشدوداً إلى الأسرتين معاً، وإن كان هناك بين الأسرتين ما بين طرفي الآنية المستطرقة من ميل على جهة لكي تغذي الجهة الأخرى. «الكلمة من أجل الإنسان» منذ أن رفعناها في أسرة الأدباء والكتاب في 28 سبتمبر/ أيلول 1969 وهي إلى الآن مرفوعة فوق لافتة الأسرة في مبناها الجديد في الزنج، وقد مرّ عليها أربعون سنة. هذا الشعار لم يزل أخضر فإن الإنسان يظل موجوداً في كل زمان ومكان، والعمل من أجله متصل لا يجف ولا يتجمد. كل ما هنالك أن الإنسان نفسه يتغيّر، يتحوّل، يتبدل حسب الظروف، ولذلك نحن نعيش هذا التحوّل لكي نواكب تحوّل الإنسان وحركته وحيويته.

الإنسان قبل أربعين سنة كان يحتاج من الأدباء إلى كلمة تختلف، إلى لغة شعرية تختلف، إلى قصة مختلفة. كان الواقع الذي يعيشه الإنسان، والإنسان عادة ما يكون جزءاً من واقعه، يتأثر بكل معطياته، فكان هذا الواقع مختلفاً، ملتهباً، متوتراً بمسافة التوتر أو الفجوة القائمة بين الإنسان وظروفه السياسية، الإنسان والسلطة، الإنسان والواقع السياسي، هذا الواقع أول شيء حصل عليه بعد عام من تأسيس الأسرة، أن البحرين أخذت في استقلالها، فتغيّر شيء كثير في حياة الإنسان، في حياة البلاد.

هذه النقلة عكست نفسها في الحراك السياسي الذي حدث في العام 1971 من انتخاب أول مجلس دستوري استمر إلى 73، ثم حصلت الانتكاسة التي يعرفها الجميع، وحصل التوتر، إلى أن جاء مشروع الإصلاح السياسي العام 2001، لكي تعود للحياة السياسية في البحرين عافيتها، وكان الإنسان دائماً يتأثر بالمتغيّرات السياسية؛ لأننا عندما نقول المتغيرات السياسية فهي بوابة لجميع المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ لأن السياسة في عالمنا العربي، ونظراً لأثرها الكبير الدامغ في حياة الإنسان، تشكل مفتاح مجمل الحيوات أو الظروف التي ترتبط بها كالجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
فكل ذلك قد تغيّر، ونحن سنعمل - في أسرة الأدباء - لهذه المتغيّرات، ونتغيّر مع متغيّرات هذه الظروف، مع تغيّر الإنسان الذي نتوجه إليه.

* في ظل هذه الإشارة إلى مسألة التغيّر، ماذا يحمل علوي الهاشمي للأسرة بعد أربعين عاماً، في ظل مؤسسات ثقافية كثيرة وأجيال جديدة تعاقبت على الأسرة؟ ماذا يحمل الهاشمي الآن من مشروع للأسرة؟

- أنا أحمل مشروعاً كبيراً لا يختلف عن المشروع الذي حملته قبل أربعين سنة، وسأضعه على أول الطريق لكي يستمر أربعين سنة أخرى، ليس من المهم أن أعيشها أنا شخصياً، لكن المهم أن تستمر هذه الأربعون سنة ويتقلب فيها وينعم بها إخوة لنا وأبناء لنا، هم ممن اشتغلنا على تنمية مواهبهم ودفعهم إلى واجهة المسرح الأدبي والثقافي، وصاروا اليوم أبناء كباراً وأدباء لهم دورهم في واقعنا الثقافي، نتمنى أن يأخذوا أيضاً بعملية التطوير والتنمية التي وضعناها ونضعها اليوم، كما أخذنا نحن بتلك الأربعين سنة إلى أن وصلنا إلى اليوم.
أنا لست أكثر من مشغّل لمكنة أسرة الأدباء ومساعد على تشغيلها من جديد، مساعد لإخواني وزملائي الموجودين حالياً والذين يساعدونني ويعاونونني في كل عمليات التشغيل أسرة الأدباء والكتاب، ما أنا إلا دفعة جديدة من دفعات تطوير هذه الأسرة.
المشاريع كثيرة في الحقيقة، واجتماعنا اليوم كمجلس جديد لأسرة الأدباء والكتاب بمعالي وزيرة الثقافة والإعلام فتح لنا آفاقاً كبيرة لتحقيق أحلام حملناها في مجلس الإدارة، وكنت أنا شخصياً أحملها في جعبتي عندما عدت إلى أسرة الأدباء والكتاب، وسيراها قريباً المثقفون والساحة الثقافية مباشرة بعد عطلة الصيف، التي تفصلنا عن مشروع كبير واجهته الاحتفالية بمرور 40 سنة على تأسيس أسرة الأدباء والكتاب، وستكون - في منظوري - نقلة كبيرة لأسرة الأدباء والكتاب في صورتها الإعلامية، وخاصة في عهد الشيخة مي التي باركت جميع ما ذكرناه ودعمته أيما دعم، وكنا فرحين بهذا الدعم الذي سيرى المثقفون آثاره على جميع وسائل الإعلام ابتداءً من شاشة التلفزيون وانتهاءً بالصالة الثقافية وجميع الفضاءات الموجودة في البحرين، وهذا وعد من معالي الوزيرة التي شدّت على أيدينا وأعجبت ببرنامجنا.

* ألا تعتقدون أن العيون عادة دائماً مرصودة على جيل الروّاد والمؤسسين، غير الحاضرين أحياناً بينما أن الجيل الحالي يبحث عن ذاته ليجذر تجربته وإبداعه؟

- أولاً الجيل المؤسس من حقه أن يتفرغ إلى مشروعه الخاص، كل أديب من حقه بعد هذا العمر الذي انقضى معضمه في الوضع الثقافي وإدارة الإسرة وغيرها، بالإضافة إلى الكتابة الآن لم يتبقَ من العمر أكثر مما مضى، ولذلك بقيت مشاريع كثيرة عند هذا الأديب ويريد أن يسابق الزمن قبل أن يغمض عينه فيعطي كل ما لديه لمشروعه الذي لن يكمله أحد بعده هذا من حقه، وأنا أعرف هذا جيداً فعندي ما يقرب من 20 إلى 25 كتاباً عن الأدب في البحرين وفي الخليج وفي الوطن العربي على الرفوف، تنتظر تفرغي وأنا للمرة الثانية الأن أضحي بهذا المشروع الشخصي لأعود لممارسة الواجب العام الوطني اتجاه الثقافة واتجاه أسرتي، ففي المرة الأولى ضحيت بمشروعي الشعري لأقوم بالعملية النقدية التي تدافع وتبلور وتبرز وتوصل صوتنا الشعري إلى الوطن العربي، وأرجو أن يكون قد بلغ هذا الصوت وبلغت رسالتي النقدية أعود الآن مرة ثانية من جديد لأجل ما تبقى من مشاريع نقدية جديدة ما زالت مخطوطة لكي أقوم، ولا أدري إن كنت أستطيع أن أتفرغ أو أفرغ ذات يوم ويبقى من العمر فضاء من الزمن أستطيع أن أؤدي هذه الرسالة.

* ما الفرق بين الجيل المؤسس والجيل الحالي، فقد أشرت مرة إلى أن الجيل المؤسس كان جيلاً غاضباً، جيلاً يبدو من قسمات وجهه التجهم والشدة، وتمنيت من هذا الجيل أن لا يحمل هذه السمة، وأن يكون متصفاً بانطلاقه مع هذا الأفق الجديد المفتوح؟

- لم يكن ذلك وجهنا بل كان وجه المرحلة الوجه المتجهم الغاضب الثائر على كل شيء فقد كنا في مرحلة الاستعمار عندما أسسننا الأسرة، وما قبل التأسيس بقليل كان الانطلاق من الحركة الشعبية في 1965، وكنا قد نضجنا في هذا التنور جمعينا فبالتأكيد أن نخرج من هذا التنور ونحن نحمل وهجاً حتى جاء كما ذكرت التأسيس في الاستقلال، فالحياة الدستورية فالإصلاح السياسي الأخير، كل هذا جعل الملامح تنفرج، نحن الذين دخلنا هذا التنور وخرجنا منه صرنا اليوم نشعر بحناجرنا وهي نغتسل بماء الحرية، على الأقل حرية التعبر، وهي بالنسبة إلى الأديب إن لم تكن باباً للحريات، إن لم تكون حرية أساسية أو هي كل الحريات، فهي على الأقل باب لجميع الحريات الأخرى، الأديب دائماً يتحسس حنجرته وهو يريد أن يتفوه ويقول ويعبر ويكتب فتلك حرية التعبير، وأعتقد بأن حرية التعبير متوافرة اليوم بشكل جيد، ونحن عندما نتلفت اليوم لا نجد أحداً من زملائنا ولا من أعضاء أسرتنا لا في سجن ولا في منفى ولا في مكان آخر، يمارسون حريتهم الطبيعية ويكتبون ما يشاءون في الصحف وفي الكتب ومطلقي السراح صوتاً ويداً وجسماً، وكل شيء وهذا مكسب ينبغي أن نعيشه فلا نعيش على حموة التنور السابق الذي تركناه خلفنا، ينبغي على الجيل الجديد أن يعيش ملامح المرحلة وتنعكس على وجهه وسلوكه تقاطيع المرحلة، التي تحمل من الوعود والأحلام وأشياء كثيرة ينبغي أن يعيشها هذا الجيل الجديد، لا أن يحمل آثار الماضي، فآثار الماضي يجب أن نتركها وراءنا لكي نتوجه إلى المستقبل والجيل الجديد أولى أن يتوجه إلى المستقبل أكثر مني أنا كجيل انتمي إلى جيل آبائي.

* حملت شعر جيل السبعينيات مشروعاً نقدياً فانطلقت به إلى آفاق رحبة، ماذا لديك لجيل التسعينيات والثمانينيات والألفين ماذا تجد فيهم، وماذا لديك عنهم ليحملو مشروعهم الشعري والأدبي إلى آفاق رحبة كما حملت الجيل السابق؟

- أنا أعتقد بأن ما يميز جيلنا عن الجيل الجيد أن جيلنا جيل عمل وليس جيل كلام فقط، وبالفعل خاضو معك أوضاعهم بكل شرف ومبدئية إلى حد الاستشهاد ولا يوجد أكثر من الاستشهاد تعبيراً عن الالتحام بالواقع والتعبير عن الرغبة في العمل، الجيل الجديد محتاج إلى العمل ليس من الضروري العمل كما نحن عملنا وإنما العمل بمقتضيات ومعطيات المرحلة التي يعيشون فيها، ولكن لا بد من العمل في كل مرحلة من المراحل وليس فقط الكلام، ليس فقط الانتقاد، ولكن دائماً النقد البناء متصل بالعمل والنقد لا يكون بناءً إلا بالانخراط في العمل، أما أن يجلس إنسان أمام الورقة يكتب فقط فلا يمكن أن يتصف نقده بالبناء، وصفة البناء تأتي من العمل ولذلك هذه الصفة ترتبط بفعل أن يبني، ولذلك قلنا النقد البناء، فلا يعرفه من يصفه إلا إذا كان مشاركاً بعملية البناء، لذلك أدعو الجيل الجديد إلى أن ينخرط بالبناء حتى وهو يكتب، نحن كلنا كتّاب عندما نتحدث اليوم نتحدث ككتاب ولكن الكتّاب الذين يعملون الكتاب الذين شيدو أسرة الأدباء، وأتمنى من الجيل الجديد أن ينخرطو في هذا التشييد ويواصلوا البناء فإذا كنا بنينا طابقاً واحداً أو اثنين فليبنو على هذين الطابقين ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو عمارة كبيرة كما قال الشاعر:
نبني كما كانت أوائلنا تبني
ونرفع فوق ما رفعوا

هذه الطريقة السيلمة، أما عن مشروعي النقدي وماذا أحمل لهم، فأعتقد اني سأرشح لهم من هو أكفأ مني للكتابة عنهم لأن من يكتب عن المرحلة ينبغي أن يكون كالينبوع من نفس طبيعة المرحلة لا ان يأتي منحذراً كالسيل من مرحلة أخرى أو من سماء أخرى، فالينابيع لا تنفجر من السماء بل تنبثق وتنبجس من الارض ومن طبيعة المرحلة ولا بد أن يبحث ويشتغل البعض بعملية النقد التي تعرف تماماً لغة هذه المرحلة وتعرف شعراءها وتستخرج القانون الذي ينظم التجربة الشعرية، أنا اكتشفت القانون لمرحلتي، وقلت إن القانون يكمن فيما قالته النخلة للبحر وأضفت إليه البعد الفني، وقلت على المستوى الواقعي لما قالته النخلة للبحر، وعلى المستوى الفني والسكون المتحرك هذا هو قانون المرحلة الأدبية والشعرية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي عاشتها الأجيال قبلنا إلى سنة الآلفين سنة 2000 و2001 إذ حدث تحول كبير في البحرين بالمشروع الإصلاحي، هذه ليست مبالغة وليست دعاية سياسية أنا لا اتبنى دعاية سياسية ولا اتبنى كذباً ولست منتمياً إلى أحد أنا لا انتمي إلا لهذا الوطن وعندما أقول الوطن أقول الحاكم والمحكوم، ولا أقصد أن أجعل فاصلاً بين الحاكم والمحكوم فكما نكون يولى علينا، هذه قاعدة معروفة والحكام يخرجون من ضلوع الشعب من ضلوع الناس ومشاريعهم تكون جزءا من هموم الناس، وأنا أعتقد بأن كل الشعب البحريني على مدى قرن من الزمان ابتدأت من أوائل القرن العشرين الماضي لتتراكم عبر حلقات نعرفها جيداً ومرت حتى بحلقات أدبية نضالية تمثلت في مجلس الشيخ إبراهيم بن محمد في المحرق، ومجلس سلمان التاجر في المنامة، وتمثلت في النادي الأدبي الأول 1921، وتمثلت في حركة الـ 23 السياسية والمطالبة بأول مجلس تشريعي وتمثلت بتشكيل البلديات (المجالس البلدية) وتمثلت في حركة الـ 37 حركة سعد الشملان وغيره، وتمثلت في الخمسينيات 52، 54، 56، ثم تمثلت في 65 التي أشرنا إليها إلى 71، 72 والحركات المعروفة إلى أن وصلت إلى حالة شلل الحالة السياسية حالة الشلشل في منتصف التسعينيات والثورة التي حصلت، ثم الانسداد السياسي والانحباس الثقافي وكل شيء في سنة 2000، في سنة 2001 انبثق نور جديد، هذا النور الجديد لا بد من الانتباه إليه لا يمكن أن نقول شيئاً آخر، لا بد أن نقف مع هذا النور، قد يكون النور قدر شمعة يجب أن نوقد منه شموعا أخرى، وشموعا حتى نجعل منها شمساً في أفق الحلم على الأقل إن لم يكن في أفق الواقع.

حبيب حيدر.


شعار الخمسينيات

إصدارات الأسرة