في أمسية حول رواية دلمونيا لرسول درويش مرحمة: ترجمة الخزاعي الإبداعية خاطبت ثقافة المتلقي وحافظت على مكونات النص


أقامت لجنة الترجمة بأسرة الأدباء والكتاب البحرينية أمسية أدبية حول ترجمة رواية دلمونيا لكاتبها البحريني رسول درويش، وعرض الدكتور حسن مرحمة مقارنة تقريبية بين النص الأصلي الذي صدر عام 2016، وبين النص المترجَم الذي صدر عن دار أولمبيا البريطانية عام 2022 وهو من ترجمة عميد الترجمة البحرينية الدكتور محمد الخزاعي.

وجدير بالذكر أن النص الأصلي الصادر عن دار نينوى للنشر والتوزيع جاء في 400 صفحة، فيما جاءت الترجمة في 387 صفحة، وقد استغرقت كتابة النص الأصلي ثلاث سنوات فيما جاءت الترجمة في سنة واحدة، تواصل خلالها الكاتب والمترجم حول العديد من النقاط التي أثمرت عن هذا العمل المميز، كما نذكر أن النص الأصلي هو في طور الترجمة للغة الفرنسية عن طريق إحدى المترجمات الجزائريات.

هذا وقد أُقيمت الأمسية الأدبية في مقر أسرة الأدباء يوم الأحد الموافق 12/3/2023. وأدار الأمسية وقدَّم لها المترجم محمد المبارك، ثم أفسح المجال للدكتور مرحمة ليتناول أهم مقومات الترجمة الإبداعية لرواية دلمونيا، وجاءت محاور الدراسة المقارنة مختلفة ومتعددة نذكر منها:

تمثل رواية دلمونيا حضارة تاريخية وجب على الدكتور الخزاعي أن يترجمها ويقدمها للقارئين بالإنجليزية، وبما أن الرواية ثقيلة لغويا وثقافيًا وتاريخيا، فقد تمكن المترجم من تجاوز هذه المطبات والصعوبات. وقد احتوت دلمونيا على ثيمات متعددة، وشخصيات كثيرة، وذلك يستوجب مراعاة الدقة في الترجمة. وإذا افترضنا أن الترجمة هي عملية نقل المفردات أو العلامات من نص إلى آخر، فهذه عملية تفكيك الشفرات في النص الأصلي.

وتطرق الدكتور مرحمة إلى ضرورة أن يقرأ المترجم النص الأصلي بدقة، ثم يقوم بتأويله وتفكيك شفراته، ومواءمة الدال إلى المدلول، وهو ما ينتج عنه مدلول ثقافي واجتماعي وأيديولوجي وحتى سياسي، وهو ما يستوجب على المترجم أيضًا الوصول إلى المعنى الضمني، هكذا هو الأمر بالنسبة إلى رواية دلمونيا، إنها مشحونة بالأحاسيس والمشاعر وكان يجب أن يسلط الضوء عليها ونقلها بقدر الإمكان إلى المتلقي الأجنبي.

وتحدث الدكتور أيضًا حول أهمية أن يكون المترجم منسجمًا مع خط الأديب في جميع النواحي ويراعي متطلبات المتلقي في ذات الوقت بحيث يكون وسيطًا بين الكاتب والمتلقي. وأن يحافظ على ما جاء في النص الأصلي من الأهداف الاجتماعية والثقافية والأيدولوجية، تلك التي ينوي المؤلف إبرازها وتأكيدها. ومن جانب آخر، أمامه المتلقي أي القارئ الذي يختلف تمام الاختلاف في الثقافة والعادات عن المؤلف نفسه.

ومن جانب آخر، أكَّد الدكتور مرحمة أنه من غير الممكن الوصول إلى ترجمة صادقة بين النصين، وإنما يكون التقارب في المضمون هو الهدف بين لغتين مختلفتين، وهنا نحن لا نتحدث فقط عن الترجمة اللغوية بل أيضا الثقافة والقيم وغيرها، وهذا ما هو جلي وواضح في دلمونيا. ولذلك على المترجم أن يكون ملما بالثقافة والتاريخ والعقيدة في النص الأصلي، أي أنه يبحث عن أفضل نهج لنقل النص إلى النص المُترجَم. وعليه أيضًا التعمق في النص لمعرفة مكوناته، وهنا تتعدد وظائفه كمترجم: دراسة اللغة والأدوات البلاغية ومعرفة الطابع الجمالي، والمعرفي والسيميائي وغيرها. وعليه يجب أن ننظر إلى عملية الترجمة كعملية التبادل Exchange بين الدال والمدلول وتحويل العلامة من فضاء النص الأصلي إلى فضاء آخر.

وفي سياقٍ متصل، تحدث الدكتور مرحمة عن الاختلاف بين المتلقي العربي والأجنبي، وأوضح أن العربي يبحث عن شخصيات ذات مهارات عملية ونظرية كلامية، وعن الحوار بين الشخصيات، والزوايا التاريخية والثقافية، بينما يبحث الأجنبي عن الشخصيات المغامراتية والإثارة والمونولوج الداخلي والحبكة الأفلاطونية.

وفي مقابل ذلك، تحدث الدكتور مرحمة عن رواية دلمونيا قائلًا: إنها رواية تروي قصة أجيال ومجتمعات وشخصيات، كانت تعيش تحت ظل قوانين اجتماعية أو فردية طاغية، ومنها قصة البحث عن المغمور، عن مقابر دلمون، وطبعا لا ننسى أن هذا نوع من التلميح حول ما سيحدث بعد ذلك، وخاصة مغامرات المستكشف الدنماركي أدم، الذي يتعرف إلى مجريات تاريخ الغوص ومآسي الغواصين، وهي تشكل مقدمة الرواية.

وانتقل الدكتور مرحمة إلى الحديث عن عتبة العنوان في هذا النص الإبداعي وقال إن اختيار العنوان المناسب يعزز استجابة القارئ للنص، ومن خلال هذا العنوان يستطيع القارئ التكهن بمجريات أحداث الرواية، ولكن الأهم أن العنوان كعلامة لها سماتها السيميائية البارزة طبقا لمقولة العالم الأمريكي تشارلز بيرس؛ هنا «دلمونيا» كعنوان يحمل سمة رمزية وأيقونية من ناحية أنه يرمز إلى حضارة دلمون، والتي تدور حولها أحداث الرواية.

ومن جانب، آخر، لها سمة أيقونية مصورة عن مقابر دلمون؛ ولذلك أدركت الأهمية التاريخية والثقافية للعنوان، ولم يقم المترجم بتغيره كما فعلت مثلا مارلين بوث في سيدات القمر. إذن العنوان في النصين يرمز الى حضارة دلمون؛ هناك شعور بالفخر والاعتزاز لدى القارئ من ناحية، ومن ناحية أخرى، الحزن والأسى بزوالها.

كما تطرق الدكتور إلى الأهمية السيميائية في النص وكيف طُبِّق النظام السيميائي على رواية دلمونيا. وتحدث عن المشهد الافتتاحي أو المفاجئ الذي قدم شخصيات النص الرئيسة والصراعات بينها. وأكد أن المترجم استطاع تجاوز الهوامش وأخذ عنها المعنى في النص ذاته.

وتطرق بعد ذلك الدكتور للحديث عن دور الوصف في رواية دلمونيا وقال إن وصف البيت الذي يسكنه أل جبور يستحق التمعن؛ من جانب هو بيت قديم تسكنه عائلة أل جبور ومن جانب آخر يرمز إلى التراث القديم. وهنا يجب ذكر الميزة الأدبية الرفيعة لرواية دلمونا، فهي لا تأتي فقط من هذه الاقتباسات الدينية والشعارات، بل من بنيتها الفنية؛ الإشارة إلى العادات والعقائد هي جزء من هذا الإبداع. يجب قراءة دلمونيا من المنظور الفني وليس من الزوايا الضيقة كالإشارة إلى الكنيسة الكاثوليكية وغيرها. نحن هنا نتعامل مع موضوع حي ألا وهو حضارة دلمون وهذه الحضارة ليست وهمية بل إنها الحقيقة.

وركز الدكتور على استخدام رسول درويش للحوار أو المناجاة، وهو الذي يستخدم في الغالب في دراسة الحالة النفسية للشخصية مثل قول هاملت المعروف (أكون أو لا أكون) وتكون في الغالب اللاإرادية، وهي الى حد ما قريبة الى التقنية الأدبية المعروفة بتيار الوعي Stream of Consciousness وهكذا يمكن القول إن المناجاة تفتح قلب الشخصية للقارئ لتبوح عن أسراره الداخلية بشكل فعال. مثلا الحوار الداخلي الذي يردده بو راشد عندما يريد مقابلة النوخذة ويمنعه الخادم.

كما ركز الدكتور على أحد أهم المشاهد المثيرة في دلمونيا في ص 219، وقال إنه يجب الإشارة إلى أن هذا المشهد ومشاهد جنسية أخرى مثيرة هي مألوفة وعادية عند المتلقي الأجنبي، ولذلك لم يسلط المترجم الضوء على القوة البصرية كمشهد سينمائي وإنما قام المترجم بسرد المشهد.

وفيما يخص الهوامش والحواشي، ذكر الدكتور أن جيرارد جينيت أسماها بالعتبة أي الإضافات التي تكتب خارج النص وتسمى paratext. وقال إننا لا ننسى إن الترجمة الأدبية تختلف عن الترجمات الثانية لأنها تتميز بلمسات خاصة يضعها المترجم الماهر على النص المترجم إليه ما يجعل التفاعل بين النص والقارئ أقوى؛ في النص العربي قام رسول درويش بإلحاق حواش لبعض المفردات مثلا ص 34 في الإشارة إلى كلمة «الأشرفية» ولكن المترجم أبقى المفردة نفسها في ص 36 وبشكل مائل لجذب انتباه المتلقي، إذن غيَّر المترجم ما جاء في النص الأصلي ما دام هو متمسك بالمضمون خشية من التشويش. وربما يجد المترجم أن العبارة غير مناسبة في هذا السياق: مثلا يقول رسول ص 35 «يتمنى الحاكم وتابعوه...» ولكن المترجم حذف «تابعوه» واكتفى ب The Ruler ص 37 وحولت R إلى حرف كبير Capital Letter وطبعا ما يقصده الراوي في هذا المجال هو النوخذة والتاجر.

نعم يجب التوضيح أنه توجد في النص العربي من دلمونيا شعارات سياسية وأيدولوجية slogans والتي هي نوع من شعارات سياسية أو الدعاية السياسية political propaganda والكثير من الكتاب في الشرق والغرب استخدموها ابتداء من ماكسيم جوركي الروسي إلى جاك لندن الأمريكي؛ لدينا عادة نوعان من البروبغندا السياسية ؛ أولا البروبغندا الناعمة والبربوغندا المتشددة؛ في ص 41 عربي والدة آدم تشرح لآدم الفلسفة الاشتراكية وبالإشارة طبعا للبرجوازية – القارئ العربي طبقا لخلفيته السياسية يستجيب لهذه الأقوال ربما يرفضها في الحال أو يتقبلها تعاطفا مع المظلومين. ونلاحظ أنه في النص المترجم نحن نخاطب قارئا مختلفا ثقافيا وأيدولوجيا وفكريا، ولذا يجب أن تكون الترجمة أقل حدة وصرامة مما جاء في النص الأولي مع أنها مطابقة للنص الأول لدرجة أن الشعارات الاشتراكية تتبدل إلى بربغندا ناعمة تمر مرور الكرام على القارئ الإنجليزي.

وفي نهاية الجلسة الحوارية، أتاح محمد المبارك المجال لمداخلات الجمهور لإثراء الحوار والإشادة بالورقة الإبداعية التي طرحها الناقد د حسن مرحمة، لنصٍ إبداعي ونصٍ مترجَم موازٍ له.

شعار الخمسينيات

إصدارات الأسرة