أسرةُ الأدباءِ والكتابِ هذان الألقُ والقلقُ المستمران

لم يكونوا يملكون سوى أقلام، وورق بسيط متواضع، يلتقون على البحر، وفي أحشاء الحواري، وفي أبنيةٍ متعبةٍ من كثرةِ النزيف، خارجين من وطنٍ صغيرٍ مُلغى من خريطة الكبار، كانوا كتاباً واعدين في الأغلب، يستعيرون غرفَ وصالات الأندية: نادي النسور، والنادي الأهلي ونادي العروبة، كانوا مجهولين ويتحدون في الوقت نفسه رموزاً أدبية نادرة تقليدية، وهناك في تلك الحجر يشكلون معاركهم: يستعرضون قصصاً ويقصفون أشعاراً ضد القلاع والنوم الاجتماعي. في صالة نادي النسور لاأزالُ أتذكرُ الشاعرَ قاسم حداد وهو يغذي قصصَ (سيرة الجوع والصمت) بالنقد الجارف الساخر وبالشبع الفني ومن هناك خرجَ نسورُ القصة البحرينية، وراح قاسم يتحدى بعضَ الكبار بالأسئلة في نادي البحرين، ليستمر ربما في أسئلتهِ للبحرين طوال التاريخ التالي المنفي عصراً الناهض لديه شعراً، ويحاورُ الشاعرَ والناقدَ علوي الهاشمي في نادي الترسانة عن مقولة ان كلَ الشعراء طيبون، ومناضلون، فيكتشف علوي خلال عقود تالية مسائلَ عميقة تتجاوز كثيراً تلك الرؤية، ويغدو الناقد الكبير في ثقافة الشعر، الذي لا نظير له في نقد القصة، ويأتي بدر عبدالملك لينتقد ويسخر من أم كلثوم في عقر دارها في نادي العروبة، ويمدح ضرتها فيروز ولكن تبقى المبدعتان الكبيرتان في سماء الأغنية، ويكتب محمد عبدالملك قصصَهُ عن الكادحين البحرينيين في خريطةٍ واسعة سلطتْ المصابيحَ على تكون الأحياء الشعبية والقرى وعجز علمُ الاجتماع المحلي الضرير عن شيءٍ من ذلك، والأستاذ محمد جابر الأنصاري يضعُ قواعدَ الثقافة الوطنية الأدبية متغلغلاً في الماضي، كاشفاً جذور التاريخ الثقافي البحريني العريق ورموزه بحدب، منتقداً الشكلانية وخطورتها على تطور الأدب، ويمضي في خلال رحلاته في البلدان العربية بحرينياً وهواجسه البحرينية والعربية والإنسانية تتداخل على نحو إنتاجي غزير من أجل الحداثة والديمقراطية، وقد كان (مسيحُ) الأسرةِ ومؤسسُها تاركاً تيارات الحدة اليسارية في ذلك الوقت تمضي في غلوائِها وإنتاجاتِها التي أكدت عمق انتمائها وضخامة إنتاجها وتنامي عقلانيتها ووطنيتها، وكانت الأصواتُ الحميمةُ تتدفقُ بين مراهقةٍ وحبٍ جارف للوطن وللناس ويأس هائل من الصعوبات والفقر وتنتجُ كثيراً ثم تتوقف بشكل حاد وانتحاري، يأساً من الكتابة ومن وضع يعاديها ومن لامبالاة جارفة من المهتمين ولغياب المعنيين بالنقد والحضور بها.

الأسرة .. كانتْ تاريخاً جارفاً من الحنين، والحب للأرض، اسماء تتغذى بالحرمان نساء مثل حمدة خميس شابة تتفجر في أسى وفي شعر يشع وتتمزق طوال عقود ولاتزال تقبض على الحروف، ومحمد الماجد تاريخٌ من اليأس والتمزق والإضاءات القليلة الباهرة المنطفئة بسرعةِ شهابٍ وحيد. وإبراهيم غلوم نقدٌ يكاد يضارعُ نقدَ الهاشمي في الشعر لكنه ينداح لنقد المسرح وللتأليف فيكون مشروعاً مختلفاً مازال قلقاً. وحسن مدن الطالب الشاب يشكل نقداً من أعماق القرى ويفجر معارك النقد والأدب والسياسة ويملأ مجلةً بمقالاته.

وكنا نحن من الأدباء السريين الذين يراقبون المشهد، أجسامنا بين الصراعات الملتهبة ضد الاستعمار، وتكوين الخلايا البعيدة، وإنشاء النتاجات، وكانت الأسرةُ تنزلقُ نحو أن تكون جسماً مباشراً لمنظماتنا الوطنية السرية وتجرفها صراعاتها، كان بعضُ المحققين يقولون لنا: (الأسرةُ هي الذراعُ الثقافيةُ للمنظمات السرية!)، لكن الأسرةَ هي المنتجة لثقافة شعب البحرين الأدبية، والمرتفعة عما هو مباشر وآلي، في تاريخِها الطويل المطلق، لا في النسبية الجزئية المتقطعة، في الانتماء للجميل والباقي وليس في مقاربة المنشورات اليومية فقط التي هي تعبيرٌ عن المعارك اليومية المهمة وهي خميرةُ الأدب لا كلماته.

كان الشاعر علي عبدالله خليفة يجمعنا في (الهورة) حيث الأعشاب الضارية التي تكادُ أن تأكلنا ويقدم لنا الطعامَ اللذيذ والشعرَ ويجرفنا مع البحر والغواصين ويشكل الأغنية الكبيرة التي بقيتْ لنا: (أنين الصواري) ويدفعنا لحبِ البحر، ويكوّن صداقات جميلة. فتتفجر قصصُ وروايات البحر على نحو عاصف في سكون الخليج بعد افتتاحه لعذابات البحارة وحكاياتهم!

الشاعر يوسف حسن كلما عذبوا النخيل واصل الشعر الأسطوري عنه، وتبعه في ذلك الشاعر الراحل سعيد العويناتي، بمنظور آخر. الشعراء إبراهيم بوهندي، وعبدالحميد القائد، ويعقوب المحرقي، وعلي الشرقاوي، سيطروا على مناخ الشعر وكلٌ منهم له مدار يتفجر فيه.
وكلُ هؤلاء وغيرهُم أوجدوا نسلاً متمرداً كثيفاً لا يتوقف عن الانتماء للتراب البحريني: فوزية رشيد تنتقلُ من الأعمدة الرومانسية في مجلات زالت من الذاكرة إلى قلبِ الأسئلة الوطنية والأدبية وتتسعُ قصةً قصيرة وروايةً في مساحات شاسعة، عبدالقادر عقيل الطفولة في الأدب والبراءة في الحياة، أمين صالح جسمٌ كبيرٌ مميزٌ اخاذ في القصة القصيرة يحلقُ في الكون والتاريخ العالمي، أحمد جمعة الرواية الكامنة الخطيرة التي تنمو بسرية مباغتة صادمة، ويوسف يتيم يكتبُ نقداً بنيوياً عن رواية (الجذوة) في العدد المخصص للأدب البحريني في مجلة اتحاد الكتاب العرب فـُيذهل نقادُ سوريا، واسماء كثيرة يطول حشدها ويقصرُ المدادُ والمساحةُ عن استيعابها. أحمد المناعي الباقي دائماً في ذاكرة الأسئلة المؤسسة في النقد والمتابعة الدقيقة للثقافة الوطنية، نعيم عاشور، ومنيرة الفاضل، وغيرهما شكلا سماءً قصصية مضيئة. إنني أقاربُ فقط لمحات صغيرة من جيلين ولعلي أختصر كثيراً، ولتعذرني الأجيالُ التالية.

نسلٌ كثيفٌ أجدادهُ من طرفة بن العبد ولا يتوقف عن الولادات الخطرة المرصودة، كان العربُ الذين يرون كلَ هذه النتاجات الحاشدة يعتقدون ان البحرين القديمة مازالتْ موجودةً، وأننا نحتلُ الأحساءَ بعد، ونمتدُ لعمان بعقليتنا المخيفة، وأن زعماءَ القرامطة أحياءٌ بيننا، ثم تتكشفُ لهم اننا في محارة صغيرة في الخليج تكاد موجاتُ الزيتِ أن تبتلعنا، وتلوثهُ أن يخنقنا، ولكننا مع هذا نكتبُ بشراهة ونقاومُ بروحِ شعوبٍ سحرية، ومنقطعة النظير ربما لنبقى ونتنفس هواءً نقياً حراً!

ربما لا يُقام وزنٌ كبيرٌ لكم الآن، ولكن الأجيالَ القادمة سوف تنصفكم، يا من ضحيتم بأنفسكم وزمنكم لكي تضيئوا هذا الوطن والعالم!


شعار الخمسينيات

إصدارات الأسرة